سعادة مقنَّعة .. أم مُقنِعة

قد نجهل أو نتجاهل حقيقة أننا نلعب دورَ مصدرٍ من مصادر التأثير فرحاً وحزناً في محيطاتنا المتواضعة -وكلٌّ بحسبِ حجم إشاراته وطاقته .. وقد كانت السعادة محط اهتمام كثير من المفكرين والفلاسفة، بل كانت الفكرة الرئيسة لبعضهم ..
ولأهذِّب كثرة تموُّج الحالة المزاجية لدي، فقد ارتحلت في أرجاء أقوال عدد من الأدباء والفلاسفة، فهذا شيكسبير يقول بإيجابية “الأمل بالفرح يوازي الفرح نفسه“، ويؤيده ضمنا القامة الروسية تولستوي “الحزن المطلق مستحيل مثلما هو الفرح المطلق“. وعلى رأسهم فيلسوف الأخلاق سبينوزا، وقد تُعرَّف الأخلاق السبينوزيَّة بأنها أخلاق السعادة، باعتبار أن الطرح الأخلاقي لقضية السعادة في كتابه [علم الأخلاق] لا ينفك الخروج عن نطاق التساؤل: “كيف أضمن لنفسي أكبر عدد من انفعالات الفرح وأقل عدد من انفعالات الحزن؟” .. وبالطبع، فانفعالات السعادة والحزن ترتبط بدرجة تأثرنا بالعالم المحيط ومقدار تأثُّرنا به وتأثيرنا فيه. 
 
والدرس الأخلاقي المستتر خلف هذا، هو تأصيل ملَكَة [الملاحظة الناعمة] وهي ببساطة [صقل مستقبلاتنا الشعورية] وذلك يمكننا من الوعي بالتغيُّرات المزاجية والشعورية لدينا، فيتنبُّه الإنسان فينا للمعنى الذي يتأثَّر به فرحاً أو حزناً أو غضباً .. فانفعال الإنسان مع مؤثِّر ما، بغض النظر عن الكيفية والمُحصِّلة، هو مدلول على مقدار هيمنة الفكرة عليه وتخلُّقه بخُلُق [التعلُّق الشرس] مَعْمِيُّ السببيَّة والمعنى !
فمن هنا جاءت أهمية تفتيش الإنسان بشكل دائم عما يبث فيه روح الفرح والترح .. وهذه قضية أشار لها الفيلسوف النمساوي الأمريكي إريك فروم، الملقَّب بسيِّد الضِّدَّيْن [الكينونة والتملك] في كتابه [الإنسان بين الجوهر والمظهر]، فالسعادة عندما تكون نابعة من صلب النسق الاستهلاكي متمظهرة في فكرة التملك (أنا عندي سيارة جديدة/منزل كبير إذن أنا سعيد) إلى آخره .. تُبنى [الشخصية الادِّخارية/الشرجيَّة] التي أشار لها في نفس الكتاب، فعندما يستمد الإنسان سعادته من طرق الاحتياز والاكتناز فيجب أن يعلم أن نواقيس الخطر قريبة جدا منه، فهو لن يشبع مهما جمَع.
والسؤال هنا: ماذا بعد؟ وإلى أي حد قد تتقافم  هذا المشكلة؟ والإجابة هي: ستتَّسِع دائرة التملُّك لتشمل كل شيء، الصحة والأصدقاء والعشاق، وذات الشخص نفسه، وهذا الصنف من الملكية يسمى بـ [المِلكيَّة البرجوازية] ومقتضاها تَشْيِيء كل شيء متضمنا العلاقات والإنسان.
لذلك، كان سقراط على حق حين قال “السعادة تعتمد علينا نَحْن“.
 
ومثال يجسِّد هذا المعنى، في حروب التملك مع الكينونة، قصة مشهورة ذكرها الكاتب عماد سامي سلمان في مؤلفه [من مُسيَّر إلى مُخيَّر]. القصة لشاعرين عاشا في زمنين مختلفين، والتقيا بزهرة في الطريق وكان لها جِرْس في داخل كل منهما. ما ورد في القصة أن الشاعر الإنچليزي “تينسون” فتنتْهُ زهرة فأنشد لها مجموعة أبيات ولم يستطع بعدها أن يقاوم رغبة امتلاكها، ففعل. وأما الشاعر الياباني “باشو” وجد زهرة ذات يوم وتأمّلها، فلامست شيئا فيه، وتلا لها أبياتا، ومن ثم تركها ومضى دون أن يمسَّها حتى ! .. فَسِرُّ السعادة عند “باشو” هو أنْ تُعْجَبَ بشيء دون الرغبة في اقتنائه !!
 
وفي كتاب [تشريح التدميرية البشرية] لنفس الفيلسوف الفذّ، قسَّم منبهات السعادة لدى الإنسان إلى اثنين، وقد يُفيد هذا التقسيم ليلاحظ الإنسان أي المنبهات تلك تتسيده وتسكنه، فهي منبهات مُنشِّطة ومنبهات مُبَلِّدة، وقال أنه يكون المنبه مبلِّدا بقدر ما يكون من الضروري أن تزداد وتيرة تغييره، كثافة أو نوعا أو كلاهما، ويكون المنبه منشطاً بقدر ما يستمر أثره مدة أطول، مع نقصان الحاجة الحاجة إلى تغيير كثافته أو نوعيته.
 
على قائمة الأسئلة الأكثر تداولا وانتشارا: “كيف وصلت لفعل كذا وكذا؟” و “كيف نجحت في هذا الإنجاز؟”، وأجد -شخصيا- في هذا النوع من السؤال -إن كان من أجل الاتباع الأعمى- جريمة بحق إنساننا، من مُنْطلق أن لكل منا طريقه وطريقته، لأن في أجوبة تلك الأسئلة نوع من تأطير السعادة وحَدِّها، وفرض طريقتي على غيري، لتكون هي المسلك الوحيد إلى هنالك ! وإن صحَّ فسأقول “كل الطرق تتقاطع مع سعادة ما” .. 
 
وأخيرا .. معنى أن تكون السعادة فينا ومنا تتجلى في مقولة تولستوي “إننا نبحث عن السعادة غالباً وهي قريبة منّا، كما نبحث في كثير من الأحيان عن النظارة وهي فوق عيوننا” .. وقد تكون السعادة مَحْض وهمٍ اِلْتَبَس علينا بـ [الامتلاء المعنوي] بعد حالة من [الجفاء والتصحُّر الشعوري]، أو ربما تبرير اخترعناه لنَشُلَّ إنتاجيَّتنا ..
والسعادة -في رأيي- هي الكَفُّ عن البحث عن السعادة !!

فكرتان اثنتان على ”سعادة مقنَّعة .. أم مُقنِعة

أضف تعليق