لا أحب المثقفين .. ولست منهم

/home/wpcom/public_html/wp-content/blogs.dir/71f/43427515/files/2014/12/img_6114.jpg

– “إن الأفكار لا تتحول إلى قوة مادية إلا حين تمتلكها الجماهير” ماركس

– يعتقد الكثيرون منا أن القراءة الحرة -غير التخصصية أو خارج حدود التخصص- هي أمر كمالي ينعمُ به البرجوازيون والمخمليون ولا يَلْزَم غيرهم. وهذا فكر خاطئ.

– بالمناسبة، للقراءة مفهوم واسع، تتداخل معه أكثر من حاسة، فالبصر يقرأ الحروف والكلمات، والبصر يقرأ ما يشاهد ويلاحظ، وكذلك السمع يقرأ .. كما ذكر الناقد عبدالله الغذامي في كتابه [اليد واللسان].

– للكاتب وأستاذ الفلسفة عبدالإله بلقزيز كتاب قيم [نهاية الداعية]. قدّم فيه طرحا فيه هادما لأصنام ما زلنا نعبدها [الدعاة].

– يقول في تقديم الكتاب: “آن للداعية أن يصمت، وأن ينسحب من المشهد بهدوء، كي يفسح فرصة للمثقف الباحث كي يزود ثقافته بمساهمة هي في عوز إليها. آن له أن يحترم دوره، وأن لا يتعدى حدود المعرفة فلا يظلم نفسه. لم تعد المرحلة تتحمله، أو تتحمل ثرثرته الببغاوية ومهاتراته الكلامية. فالدعاة أدعياء بلا زيادة ولا نقصان”.

– كتب كتابه هذا ليدافع عن الباحث والمتسائل الجاد بداخل كل إنسان حي. الذي لا يأخذ الأمور مسلمات على طبق من هراء. بل يتأنى، ويفكر، ويتفكر، حتى له كلفه الأمر الكفر بكل ما تعلق به سابقا .. وهذه صيرورة [عملية مكررة مستمرة] لا بداية لها ولا نهاية.

– لا أمان للمسلمات في هذا الوجود، وما منا إلا واردها. ففي كل مرة تظن أنك قاربت الحقيقة أو وقعت في حضنها، تأكد أنه ما زال بداخلك ولو نقطة من وهم. ذلك أننا كلما اعتقدنا بتحررنا من الأوهام، كنا في وهم جديد !

– “الأوهام ملذات باهظة الثمن بكل تأكيد، ولكن تحطيمها أبهظ ثمنا منها؛ إذا اعتبر لذة هو بدوره ! وإنه لكذلك ولا شك لدى الكثيرين” فريدريك نيتشه ص٢١٢ [إنسان مفرط في إنسانيته – الجزء الثاني].

– نحن -البشر- نطّلع ونبحث ونتسائل ونقرأ، لا لنقترب من الحقيقة، بل لنتيقّن أكثر بأننا أكثر جهلا مما ظننا سابقا – كما يقول محمد مشكور في كتابه [كلنا حمقى].

– صفة المثقف عندنا، كمجتمع برجوازي منشغل بالوظيفة واللهو واللعب والقيل والقال، مناط نكتة ودعابة، وأمر مثير للضحك والاستنكار. وهذا أمر قد نتفهّمه. ذلك لأننا “نكره الشيء الجيد حين لا نكون في مستواه” فريدرك نيتشه ص١١٠ [إنسان مفرط في إنسانيته – الجزء الثاني].

– هذا هو فهمنا للمثقف، وقد أقول أننا أصبنا في وصفه وإنزاله منزلته ! .. فالمثقف الحقيقي هو الذي يتخطى التفكير وتحليل ظاهرة ما، ويذهب لما وراء ذلك، ينزل بهذه الفكرة إلى الواقع، إلى الشارع، إلى الجمهور .. ليجد مكانها المناسب، ويوظفها ويفعّلها.

– تفعيل الفكرة وتوظيفها يعني شيئا واحدا؛ يعني خلودها !

– وعرّض عبدالإله بلقزيز في كتابه على أمراض المثقفين -وأحببت تسميتها متلازمة. النرجسية الثقافية، والسادية الثقافية “أما ترجمتها … فتكون في صورة سلوك عدواني من مثقف أو مثقفين تجاه أفكار وآراء آخرين على نحو لا يتوازن فيه المثقف السادي إلا متى الْتَذَّ بالتجريح الذي أصاب به ضحاياه من المثقفين !”، ومازوشية المثقفين، وأخيرا، رُهاب المثقف (فوبيا).

– إشكالية الداعية أو الثقافة الدعوية تكمن في أنها لا تقدم إدراكا ما للعالم، تصورا ما عنه، إنها تنتج مواقف منه، بل هي تنتجها في لغة استنهاضية حركية هي التجييش الإيديولوجي. وكذلك يتمحور تأثير هذا النوع من الخطاب بأنه يخاطب وجدان الجمهور لا عقله – حسب رأي عبدالإله بلقزيز.

– أقولها مجددا: أمر جدُّ مقرف .. كيف يتحمّل البشر تفاقم قدرتهم على الكلام !؟

– يا أيها المثقف المتعجرف .. كيف لك أن تحرق العالم، وكلماتك لم تشعل نفسها !

الصورة مأخوذة من موقع: http://budeco.nl

الأحمق ضد حمقه

Rachel Baran

Rachel Baran

– قبل أسبوع قرأت كتابا أهدانيه د. علي أبو الحسن، وصف الكاتب نفسه في كتابه قائلا: “أنا أول الحمقى”.

– كتاب [كلنا حمقى] للمؤلف محمد مشكور، هو عبارة اعتراف شجاع، زاخم بالمفاجآت منذ بدايته حين كتب في مقدمته: ” [لا توجد مقدمة .. ولا مؤخرة ..] من وحي الفوضى العربية”.

– من السهل جدا أن يقرر الواحد منا أن يقرأ، ومن السهل أيضا أن يذهب إلى مكتبة ما أو يتصفح الانترنت ليجد كتابا أيا كان. ولكنه من الصعب جدا أن نختار الكتاب المناسب لنا، مع الأخذ في الاعتبار، ما الذي نحتاجه في الوقت الحالي، وما الذي نريد أن نزود معرفتنا به -بغض النظر عن أسباب القراءة. ولهذبن العاملين الأخيرين قوة فائقة في تحديد مدى تأثير الكتاب علينا.

– لذلك قد نجد، في كثير من الأحيان، أن كتابا ما قد أحدث فرقا جوهريا في شخص نعرفه، وبدأ يحدّث به في كل مجلس ويكتب عنه في مواقع الشبكات الاجتماعية .. وربما يأخذ ذاك الكتاب بيده ليصنع مشروعا بسبب فكرة ما في طيات الكتاب. وفي المقابل، نقرؤه فلا نجد سوى معلومات جديدة فحسب.

– في هذا الكتاب، يحاول المؤلف أن يكفر بكثير من المسلمات التي تلقّنها على فترات مختلفة في حياته. مفاهيم عديدة مثل: الجهل، الموت، الحياة، المعرفة، المرض النفسي، الأقوال المأثورة، مصطلحات معهودة … إلخ.

– يقول في ص٢٠: “أن يقرأ أحدهم فماذا يعني ذلك؟، يعني أن يزداد شكا على حساب اليقين، وأن تنتج له المزيد من الأسئلة، وتشرع له المزيد من أبواب البحث، وتوسع له الكثير من مساحة الجهل … والشك من علامات الفراغ الذي تنجبه الأسئلة، لا من علامات الامتلاء الذي توفره المعرفة … وهذا يعني أن القراءة لا تملؤنا بقدر ما تفرغنا من اليقين، وبقدر ما تملؤنا الشك، والذي يعني الجهل أكثر من الامتلاء”.

– في مقالة مطولة يرفع الأستاذ محمد مشكور من احتقارنا للجهل، ويقدمه في أسلوب ثائر يائس من واقع مؤلم، وهو أننا نسعى لأن نكون عارفين -بمعنى لاهثين خلف المعلومة- ونهرب من حقيقة أننا جاهلون. والحقيقة -التي ينتصر لها المؤلف- أن الجهل لصيق ولزين ابن آدم، والجهل هو أمر يجب التصالح معه والإقرار به، والجهل هو وليد القراءة والمعرفة. قال جل وعز ((وفوق كل ذي علم عليم)) سورة يوسف آية [٧٦].

– ويقول ص٢٤: “وبناء على ما تقدم فالجهل لا يعني التخلف، وهو أساس التقدم والانفتاح، والمرونة المطلوبة … والتخلف يكون بادعاء المعرفة، والمتخلف هو الفرد العارف والفاهم، والجاهل يؤمن بالنقص والقصور فيتغير، والمتخلف يبقى ويصرّ على حاله فلا يفعل، والفرق واضح”.

– “عندما يعترف الإنسان بانتقاله من الإيمان بفكرة إلى التصديق بنقيضها، فإنه يشعر بكثير من الخوف والشك، ويزداد خوفه وشكه عندما يتذكر أحكامه التي كان يطلقها على المتخلفين معه بإيمانه ذاك، أو ربما ملاحقاته لهم أو حتى إيذائه لبعضهم فيما لو مان متطرفا حد التسبب بالإيذاء … الانتقال من الإيمان بفكرة إلى التصديق بنقيضها يخيف الباحثين عن الحقيقة، خاصة أولئك الذين يعتقدون بوجود محطة نهائية لها. فمثل هؤلاء سيوقفهم انقلابهم على إيمانهم الذي كان راسخا في يوم من الأيام على مقدار الضعف الكامن بوعيهم، ما سيمنعهم مستقبلا من الركون إلى أية أحكام قطعية صادرة عن هذا الوعي” سعدون محسن ضمد [هتك الأسرار] ص١١.

– ويذهب المؤلف إلى أن تكون القراءة قراءة تفكيكية لا قراءة غرضية، ويصفها ص٣١: “القراءة التي تنتج من الأفكار أفكاراً أخرى، القراءة التي تؤمن باللامعنى واللامكتوب والمسكوت عنه في النص، القراءة التي لا تضع نهايات، ولا تؤمن بفهم أو يقين، القراءة الاي لا توهمنا فهما ولا توصلنا علما، إنها القراءة الوحيدة التي ستمكننا من عيش إنسانيتنا من دون تطرف ومن دون جزم”.

– ويقول ص٣٥: “الجهل هو سبيلنا للتخلص من نرجسيتنا واعتدادنا بأنفسنا، وإذ نعترف بأننا جاهلون؛ نعترف بأننا بشر، والجهل يوردنا الريبة والشك، ولا يوردنا الاطمئنان واليقين”.

– يقتبس المؤلف من فريدرك نيتشه في كتابه [نقيض المسيح] ص١٢٢: “وأصحاب القناعات لا يدخلون في الاعتبار البتة في كل ما يتعلق بمبدأ القيمة واللاقيمة. القناعات سجون. إنها لا ترى بما يكفي من البعد، ولا تري إلى ما تحتها … إن عقلا ما يرغب في ما هو عظيم، ويرغب في الوسائل الموصلة إلى ذلك، لهو عقل رييي بالضرورة. التحرر من كل صنف جزء من القوة … فالمتعصبون جذّابون، والإنسانية تفضل الحركات الاستعراضية على الاستماع إلى براهين”.

– جذبني تفكير هذا الكاتب الثائر والحليم في ذات الوقت، وانتقاءاته الدقيقة الشائكة في مختلف مقالات الكتاب.

– كتب لي في إهدائه: “هنا الأحمق ضد حُمقه .. ووجدته رفيقك القلمي .. هنا رفيق كتب لا ليكتب .. وإنما وجد نفسه متورطا فحسب !” … وأنا أحسبه كذلك أيضا.