مجتزأ من: رسالة من صديقي الحكيم

  



لو أننا كنا شجرتين بسيطتين متجاورتين، لكانت أعظم همومنا أن نتحول لورق كنّاشة يقتنيها كاتب طائش. أو نتحول إلى قطع خشب يُشيّد بها منزل أحدهم. أو ربما تصحرت الحديقة التي عشنا فيها بسبب العوامل البيئية الصعبة، وضاقت بنا السبل حتى وافتنا المنيّة وذبلنا. أو ربما يحالفنا الحظ ونعيش عمراً طويلاً، وندخل إحدى المحميّات، ونصبح موناليزا عالم الأشجار … ولكننا لسنا سوى بشر، نُجيد التخيل قرب ساعة الهزيمة، وبعد الندم. لسنا سوى بشر نائمين، لا يوقظهم سوى ناقوس النهايات!


هذا هو الحال يا صديقي، كل ما أستطيع قوله لك: ليس من عادة الحكمة أن تأتي مبكّراً! .. ولأجل هذا السبب كانت رسالتي هذه. نعم يا صديقي، يندر أن تكون النهايات أكثر جمالاً من البدايات. ولكن لا تنسَ، أنه بوسعنا خلقُ بدايات جديدة. وكذلك بوسعنا تقويم النهايات. وصدق أحد الحكماء عندما قال: ما يزال بالإمكان أحسن مما كان. 


واعلم أنه إنْ جاءتك لحظة ذقتَ فيها عذوبة الإنسانية، وحلاوة أن تصبح إنساناً، فلا مجال للعودة لما دون ذلك. إن طريق الإنسانية طريق معاناة وألم يا صديقي، ولكن “إذا كانت المعاناة لا تستحق العناء، فما الذي يستحق المعاناة إذن؟”.

هكذا هي حياتنا، كلما اقتربنا من حال وأطلنا المكث فيه، ضاقت بنا السبل، وكرهنا ما نحن فيه، وطلبنا زواله، سواء كان بسطاً أو شدة .. حقا إن مشكلة الإنسان هي الإنسان.


تزداد مشاعرك اضطرابا كلما تذكرتَ أنه قد مرّ عام، وعام جديد يسرع نحوك. كل شيء يبدو كما كان. كأنك غبت طيلة هذه الأيام، وعدت، ولم تجد أي فرق في الناس من حولك. اقتتال المشاعر وجلبة معاركها لا تفارق باحة صدرك، تاركة خلفها عاصفة من الغبار الأسود الثقيل، جراء صراع تلك المشاعر. 

في آخر ليلة من العام، تُمسك دفتر يومياتك، تحاول قراءة عامك المنصرم بطريقة تتسم بقدر من التأنّي والدقة، تفتحُ صفحة عشوائية من شهر نوفمبر، وتطيل التأمل بما كُتِب فيه، وتقول: اه، لقد تذكرت ذلك اليوم، كان ذلك أول خريف حقيقي عشته، وكنت فيه مبتهجاً سعيداً، تكاد قدمي لا تستطيع حملي من شدة الفرح. وقعت عيني على ما كتبته في اليوم الذي يليه، لقد كان يوماً بهيجاً تماماً كاليوم الذي سبقه، أو أقل قليلاً. فقد التقيت بصديق قديم جداً، أكنُّ له من الحب ما لم أكنه يوماً لصديق قبله أو بعده. ولكننا كمثل باقي الأشياء .. تغيّرنا! وتعلمت ليلتها أن العلاقة التي تعيش في الماضي وتقتات على الذكريات، مرهونة بالوقت، والصبر. 

تُغلقُ الدفتر، وتتنهّد تنهيدة طويلة، تسخر من نفسك بكل تعالٍ وفخر، وتضحك ضحكة متقطعة .. كم تبدو معاناتنا سخيفة . يُراودك شعور قوي بفتح الدفتر مجدداً، تجد أمامك لوحة سوداء من أبريل، وتقول: كنتُ في هذا اليوم تعيساً متبلّد المشاعر. ثقيلاً كصلصال. عقيماً كعانس شابت، وجرى عليها الزمن حتى ماتت، دون أن تحظى بنشوة الجنس. تماماً كهذا اليوم. تباً للميلانخوليا. وتباً للتعلق. وتباً لكل شيء.

ترمي بيوماتك عرض الحائط، وتسقط لوحة كتب فيها: “اعلم ألا سلامة في الكلمات، لأن السلام في الصمت، غير أن الصمت يغدو مأوى العدم، ومن العدم ينبثق [الكل]؛ الكلمات كلّ الكلمات، إعصار لا يُحتمل”.


وتتساءل وإياك: لماذا عام جديد!؟ وماذا عساه أن يكون!؟ تُرى هل سأستطيع نسيان السابق؟ وهل حظي في العام القادم سيكون أقوى وأسرع من حكم القدر؟ تُرى هل نسيني الله!؟ أكاد لا أحتمل نفسي .. وددت لو أني كنت نسراً وحيداً لا يملّ ولا يكلّ السفر والطيران .. أو حتى موجة بحر صغيرة ماتت فور التقائها بحجر الشاطئ الكريم، وانتهت دون أثر أو خبر! .. أسئلة كثيرة لا تنتظر إجابات. ولكن اعلم يا صديقي أن “البقاء على قيد الحياة هو دوماً فعل مقاومة”، لذلك فالحياة لا سبيل لها إلا بمحاولة البقاء على قيد الحياة.


يا صديقي، إني تارك لك هذه العلامات والرموز، لعلك تجد فيها ما يُلهمك وما يفيدك، فخذ ما صفا ودع ما كدر ..


– لا تزهد في التعبير عن حبك بدافع الاعتياد، إن كل كلمة [أحبك] حياة جديدة.


– “إنني رجل يحفر بعناد ومثابرة حفرة في روحه لأنه يعتقد أنه في ما وراء هذه الروح يكمن الخلاص”.


– “الوحدة هي شرط وجودٍ، ودون الوحدة لا أكون”، ولكن في ذات الوقت “نسيت الوحدة في خضم الفعل، والتجدّد، والجهد الذي بذلته وأنا أختبر نفسي في الحياة”.


– إن كان من تعريف للحب فهو: “التوقف عن تأمّل الحياة والانخراط فيها”.


– “الحكمة لا تقبل التوصيل، إن الحكمة التي يحاول الرجل العظيم توصيلها للآخرين، تبدو دائما حمقاء”.


– احذر من تعريف نفسك ووصفها بكلمات واضحة، إن “ميزة الرموز أنها لا تُزعج أحداً”!


– لا يقوى على الحياة سوى متأمل.


– لا شيء يستحق هذا القدر من الجدية .. لقد أضعت كثيراً من عمري في التوقعات.


– قلبي لا يكره، وإنما يفضّل تزجية الوقت مع من يستقبله باحتفاء. قلبي لا يكره، وإنما يحب التقلّب في أحضان جيرانه.


– يومياتي هذه ليست حروفاً وكلمات عادية! إنما أنا أُمسك وأدوّن ضحكاتي ودموعي ونزفي.


– بقلبي كلمات حب لم أنطق بها بعدُ. صدري مثقل بحب لم يجد طريقه إلى قلب بعدُ.


– عما قريب، عندما تنقضي معاناتك، ستكتشف كم كنت تُبالغ في وصفها !


– في عمق كل تجربة .. لحظة انفجار للمعنى في داخل الإنسان.


– لو أني أُجيدُ الصمت كما أجيدُ الشكوى؛ لأصبحتُ حكيماً.


– من كان همّه الناس .. مات همّاً


– أكثر ما يجرحُ القلب هو خلوّه من الجُروح أصلاً!


– خسارة فادحة .. من عاش كامل عمره دون أن يُحدث اضطرابا في قلب إنسان.


– ليس هنالك شيء ضروري .. لا كلماتنا .. ولا كتاباتنا .. ولا حياتنا .. ولا نحن .. وصدق القائل: “أن تكون عظيما يعني أن لا يحتاجك أحد”.


– لا تهديني عيوبي .. ولكن علّمني كيف أتعرّف عليها بنفسي.


– لو استعطت خلع أذني لأتخيل بوذا جالساً بجانبي فأنفجر باكياً من شدة الاغتراب الذي أحس، لكنت بحال أفضل.


– “أنت روحٌ ضئيلة تضطرب هنا وهناك .. حاملة جثة”.


– كلما صرخ صوتي: لقد تعلمتُ الدرس .. لقد تعلمتُ الدرس!! زاد إيماني بأني لم أتعلم شيئا بعدُ.


– قلبه لا يئنّ ولا يحنّ .. ويقول عن نفسه إنسان.


– لو كان لي طلبٌ واحد، أمنية واحدة، دعاء واحد مجاب، فسيكون: ألا تفارقني ثلاث: المسامحة، النسيان، التجاوز. عندها أكون ذلك الذي حيزت له الدنيا بما فيها.


– للأسف .. الألم شيء جدير بأن نجرّبه!


– إنْ فكرت الرصاصة ستسقط.


– لا بأس أن أخطئ مرات باختياري، كي لا أخطئ مرة رغماً عني .. وأندم أشد الندم.


– كنت بخير لسنين طويلة .. إلى أنْ اتخذت الحياة بجدية.

فكرة واحدة على ”مجتزأ من: رسالة من صديقي الحكيم

  1. يقول Maysoon ahmad:

    كنت بدأت بقراءة المقال على عجل ..و لم أكن أنوِي قراءته كاملا .. حتى و جدت نفسي عندي نهاية المقال و قد قرأته كله بقلب مصغٍ ..شكراً لك .. شكرا لقلمك

    إعجاب

أضف تعليق