اكتب لتعيش

 

– اليوم، وقبل أن أنهض لألتقط قلمي، كنت أشاهد الفيلم الملهم الثوري بامتياز (Freedom Writers) أو كُتّاب الحُرية، هذا الفيلم العجيب المليء بالدهشة والاستحالة. قصته تبدأ من مدرّسة شابة استهلّت طريقها نحو التدريس من مدرسة ثانوية بمدينة صغيرة بولاية كاليفورنيا. لم تكن المهمة يسيرة البتة، فقد كانت العرقيّة والعنصرية والعنف والقتل تعج بأرجاء المدرسة. المهمة شبه مستحيلة، وقد سقط في فخاخ أولائك الطلبة العديد من المعلمين والمعلمات من قبلها. تدور أحداث الفيلم عن مراهقين ومراهقات فيهم الأبيض والأسود واللاتيني والأسيوي. البعض منهم مشرّدون، والفقر يشرّح ثيابهم، والأسلحة لا تفارق جيوبهم .. خلافاتهم تنتهي بأحد أمرين، الضرب المبرح، أو القتل … ومما فاقم دهشتي في نهاية الفيلم بأن هذه المرأة ما تزال على قيد الحياة وأن تلك الحكاية هي حكاية حقيقية.


– تجرّأت تلك المعلمة وأصبح تلاميذها قضيتها في الحياة ! وانتهى بها المشوار بأنْ آخت فيما بينهم، وأصبحوا عائلة واحدة، وفصلهم الدراسي صار مدينتهم الفاضلة الذي قدم لهم إكسير الحياة وصرخة الولادة الأولى !!


– ألّفت المعلمة بشراكة مع تلاميذها كتابا سُمّي الفيلم بعنوان الكتاب، وكان عبارة عن يومياتهم التي كتبوها على مرّ الأيام. التغيّرات النفسية الدقيقة، تحوّلات المشاعر، تجاربهم التعيسة في حياتهم القصيرة، افتقادهم لأهليهم الذين رحلوا بسبب طيش طلقات الأسلحة .. لقد وُلد من بينهم أُدباء يكتبون الأدب الرفيع، أدب يُسيل المشاعر ويُهتّك التحجّر ويُظهِر أناقة الروح.


– كتبت سابقا تدوينة بعنوان (المنشور المشطور بامتياز) أو (اكتب انتقاما لنفسك) ، وكتبت فيها: لا يساعدك على فهم نفسك، وتموج مزاجيتك، وأحوال شخصيتك مثل الكتابة، وأخص منها كتابة اليوميات. هناك تأثير سحري لكتابة اليوميات. هذا الممارسة تشعرني بشيء من الامتلاء الشعوري، الذي يصعب علي الآن وصفه بأكثر من أنه ترياق معنوي بامتياز. وأنقل مما كتبه كارلوس ليسكانو عن حاله مع اليأس في السجن في كتابه [الكاتب والآخر] ص45: “أعتقد أن ما حال بيني وبين الغرق في اليأس هو أنني أدركت حالتي وأدركت حقيقة أني أملك شخصية علي أن أغذيها: الكاتب الذي ابتكرته في السجن. كرست نفسي من أجله، لقد كان في ذلك خلاصي حتى إن بدا مفرطا وسخيفا قول ذلك، إلا أن ابتكاري هذا الصوت، ابتكاري M، قد أنقذني. نعم، لقد أنقذني، أعتقد ذلك، وأقوله، وأكتبه. ولكن، مم أنقذني؟ من أنني لم أكن أنا، ومن أنني لم أترك لنفسي أن أكون ذلك الذي كان ينبغي أن أكونه بالضرورة؛ والذي ولدت من أجله؟ أي شيء كان يمكن أن أكون لو لم أبدأ الكتابة؟”.


– علم النفس يعتبر الكتابة أحد طرق العلاج لديهم في تعاملهم مع المصابين بالاكتئاب مثلا. ويسمونها الكتابة الدوائية أو الكتابة العلاجية. وهذه الطريقة بجديدة حتى عند الحديث باللغة العلمية كما وجدت في الجمعية الأمريكية لعلم النفس (American Psychology Association). فالكتابة الدوائية لها أثر إيجابي حتى على الأمراض العضوية كالربو (Asthma) والتهاب المفاصل (Arthritis) والإيدز (AIDS).


– الكتابة جُرأة واكتساح للظلمة التي تركها جور وظُلم العالم فينا. هي قرار المواجهة الصارم الصادق.


– ما فعلته تلك المعلمة بتلاميذها هي معجزة حقة، فلا يشكك عاقل في صعوبة الانغمار داخل النفس البشرية، داخل الذات، إن ذلك لهو أشد خنقا من خروج الإنسان من ذاته وانشغاله بما حوله. وهذا ما عناه الشاعر رلكه حين قال: “إنه لا بد من قدرة كبيرة، وقوة عظمى، لكي يستطيع المرء أن يقبع في ذاته، ولا يلتقي بأي مخلوق آخر ما عدا نفسه”.


– كتشريح مبسّط لتطور سيكولوجية العنف أذكر ما أشار له الفيلسوف المجتمعي إريك فروم في كتابه [الخوف من الحرية] إلى أن هنالك نوعين من التكيّف، أحدهما هو التكيّف المتحرّك. وهو ما يحدث عند مواجهة الإنسان مواقفَ مُدمية وعصيبة. فالولد عندما يتعرض للضرب والإهانة والعنف مع أبيه، على سبيل المثال، يتنامى لديه شعوره بالخوف منه. وبينما يحدث ذلك، تتطور بداخله العداوة المكثفة ضد أبيه -أو أيا كان الشخص. إن تلك العداوة تصبح الأكسجين الذي يتنفسه والغذاء الذي يكبُر عليه، فتنمو به شخصيته. إن هذا العامل (=العداوة) هو ما سيجعل منه -حالا أو لاحقا- مجرما وسفاحا ومصابا بداء عصاب يجعل منه خائنا، كما نرى في أحداث اليوم حولنا.


– ما فعلته هذه المعلمة الملهمة هو قفزة أخلاقية في المقام الأول، قبل أن تحظى بشرف إرساء سفينة المستحيل، سفينة الطلاب الذين كانوا همجا سابقا، فأصبحوا مكترثين لذواتهم، وتلاميذ يدرسون الأدب العالمي .. بل وغدوا أقرب لإنسانيّتهم أكثر من أي وقت مضى.


– أبسط طريقة لتفسير خطورة التعصب متمثّلة فيما قاله الفيلسوف كارل بوبر: “إن التعصب إثم دائما، وإن من واجبنا أن نعارضه في شتى صوره، حتى عندما لا يكون ثمة اعتراض أخلاقي على أهدافه ذاتها بل وعلى وجه الخصوص عندما تتفق أهدافه مع أهدافنا الشخصية. إن أخطار التعصب وواجبنا نحو معارضته تحت كل الظروف، هما درسان من أهم الدروس التي يمكن أن نتعلمها من التاريخ”.


– إن تلك القشعريرة التي تطارد الكاتب أثناء اقترافه الكتابة هي ما يُعوّل عليه، فهي المهذب والمربي. وبصيص النور إن لم يكن من صنيعنا فلا يعوّل عليه، لأنه سيكون أيلا للخفوت. والدهشة الملازمة لفعل الكتابة هي ما يعوّل عليه، ففيها يكمن التنوّر. والاستمرار في الكتابة هي ما يعوّل عليه، فمن دونه قد تُهنا !

معنى

– قلتها سابقا، وأكررها مجددا، هذه المقالات الأسبوعية هي محاولة شخصية، تغلب عليها عدم الموضوعية وتتخللها قليل من الذاتية. لا تحلّ المشاكل بقدر ما تثيرها، ولكنها تُحرّك الساكن، وتزلزل الأراضي المهجورة بداخلي، آملا ألا تنضب عيونها وتفقد جناتها ألوانها. فالرمادي لون الزئبق المتلاعب، كلما حاولت الإمساك به؛ خدعك، ولون الأرض الميتة، والموت، والغصن المحترق، والرماد المنبوذ ..

– لستُ من أولئك الذين يحبون “الرقص فوق جثث الموتى” فقط لأنني حظيت بفرصة الكلمة الحاسمة، واثقا بأنه لا كلام يعقب كلامي، وإنما أقارب الفهم بالمحاولة. نيتشه، الفيلسوف اللاذع، قال يوما ما كلمة أحسبها كلمة حق: “إنَّ من يجد سببا يحيا به، فإن في مقدوره -غالبا- أنْ يتحمل في سبيله كل الصعاب بأي وسيلة من الوسائل”.

– للحياة نسقٌ يشبه الكتابة، تسترسل بكل سلاسة حينا، وتتعثّر في حين آخر. ربما كوب من القهوة سيفك آسر عقدة استمرار الكتابة، أو ربما يكون الحل في التفكير في أمر آخر أو بطريقة أخرى، وربما اليوم هو ليس يومك بكل بساطة، فعُد غدا وحاول، ربما وربما وربما ..

– قراءة كتاب ما، تشبه كثيرا التعرّف على أصدقاء جدد. فالعلاقات البشرية تحكمها حيثيات كثيرة، من بينها: التزامن أو التوافق الحاصل بين الطرفين. لذلك، مراراً ما يحصل أن نغرم بكتاب ما، ونعبّر عن إعجابنا به. وفي نفس الوقت، يحصل أن يكون لشخص آخر وجهة نظر مخالفة تماما لرأينا، في نفس الكتاب. 

– في بداية هذا العام الميلادي، وقع بين يدي كتاب، كان له وقْع كبير فيّ. وحينها كنت أتساءل كثيراً عن جدوى الحياة، وأطرح على نفسي أسئلة قلقة. وكان ذاك الكتاب رسولا أنست به.

– يقول الكاتب: ” إن الإنسان إذا وجد في حياته معنى أو غاية، فإن معنى ذلك أن [وجوده] له أهميته وله مغزاه، وأن حياته تستحق أن تعاش، بل إنها حياة يسعى صاحبها لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها”.

– بدا لي، للوهلة الأولى، أن كلاما كهذا هو كلام سهل ممتنع، وتنظير ما بعده تنظير، وقلت في نفسي: “من رأى ليس كمن سمع”.

– استمريت في القراءة .. وأيقنت أن هذا الرجل ليس كغيره، وأن كلامه نابع عن تجربة عميقة من الطراز الأول. وأنه كتب حرفه بنزفه ..

– هذا الرجل هو طبيب النفس والأعصاب (Neuropsychiatrist) نمساوي المنشأ، خاض لمدة ثلاث سنوات تجربة صعبة في المعسكرات النازية، وكان أحد الناجين منها.

– ليس سهلا أن يرى الإنسان الموت في كل يوم، وليس من السهل أيضا، أن ينادي -ذات الشخص- لضرورة عيش الحياة بكامل تفاصيلها.

– الفكرة الرئيسة لديه: “لكي تعيش؛ عليك أن تعاني. ولكي تبقى عليك أن تجد معنى للمعاناة. وإذا كان هناك هدف في الحياة، فإنه يوجد، بالتالي، هدف في المعاناة وفي الموت”.

– لذلك أقول، من الجيد أن يطلع الواحد منا على هكذا تجارب. فهي تقوم بمقام مسكنات الألم للشخص. فعلى أقل تقدير، هي تثبتنا وتقينا من الإحباط. والإحباط لا يستأذن للدخول، ضيف غَثٌّ، وثقيل الظل.

– يقول في كتابه [الإنسان يبحث عن المعنى] ص٢٢-٢٣: “كان هنالك عدد من المساجين لابد أن يذهب مع كل عملية ترحيل (=إبادة)، ولم يكن مهما من الذي سيقع عليه الاختيار، طالما أن كل واحد منهم ليس إلا رقما من الأرقام .. وهذه الأرقام كانت تطبع كوشم على جلدهم، كما تُحاك أيضا على موضع معين من ملابسهم .. ولم يكن الشخص يُسأل عن اسمه، فالرقم هو المهم … كان يسيطر على كل شخص فكرة واحدة فقط وهي: أن يظل على قيد الحياة من أجل الأسرة التي تنتظر في المنزل”. 

0222_LW1

– لم يتوسّل الحياة مع كل نَفَس كباقي السجناء فقط، ولكنه ذهب لأبعد من هذا، كان يريد دراسة الحالة النفسية للسجناء في السجن. وتوصّل هذا الطبيب إلى قدر عال من التجريد في تساؤله: “ولكن هل يمكن للشخص السجين الذي يقوم بملاحظاته عن نفسه -وهو سجين- أن يمتلك هذا القدر الضروري من التجرد !؟”.

– وقال أيضا: “سوف أترك هذا الكتاب للآخرين كي يقوموا بتقطير محتوياته وباعتصارها إلى نظريات خالية من التحيز !”.

– لست أرمي في مقالي هذا لتعظيم هذه الشخصية والإنشاد الأعمى بها، بل أريد أن أشير إلى أمر خطير: انتبه من مصاحبة فاقدي الثقة وفاقدي الأمل، فالبقاء حولهم لا يختلف كثيرا عن البقاء في السجن !

– والعكس بالعكس، كثيرا ما نشعر بالحياة عندما نكون برفقة أصحاب القلوب الحية، والكلمات المُحيية، مليئين بالمعنى، والثقة ..

– ڤيكتور فرانكل، في مدة بقائه في السجن، فقد أبويه، وأخيه، وزوجته .. لا زلت أتعجب للحظة هذه، كيف لم يفقد نفسه معهم !؟

– لم يقف الأمر عند هذا وحسب، بل تجاوز الحادثة، وكان صاحب مدرسة ڤينا (Vienna) الثالثة للعلاج النفسي. ومؤسس العلاج بالمعنى (Logotherapy)، الذي يعلمنا “أنه حتى الجوانب المأساوية والسلبية من الحياة -كالمعاناة التي لا يمكن تجنبها- يمكن تحويلها إلى إنجاز إنساني من خلال الاتجاه الذي يتبناه الإنسان تجاه محنته … ومواجهة الثالوث المأساوي للوجود الإنساني: الألم، والموت، والإثم (=الخطأ)” [إرادة المعنى] ص٨. 

Viktor Frankl and his second wife Eleonore, Photograph, Around 1948

– ويحارب، العلاج بالمعنى، ما أطلق عليه فرانكل [الحتمية الشمولية]، وهي تلك النظرة الازدرائية للإنسان، التي تنفي مقدرته على أن يتخذ موقفا -تحت إرادته الكاملة وليس حسب الضغوط- إزاء أي ظرف كان. فالإنسان ليس مشروطا أو محتوم السلوك، ولكنه يستطيع أن يتمنّع ويتصدّى لتلك الظروف. يقول فرانكل: “الإنسان ليس ببساطة أمرا موجودا، ولكنه يقرر دائما وجوده الذي سيكون عليه، ويقرر ما الذي سوف يصير إليه في اللحظة التالية”. 

– منذ عام ١٩٦٦، كتب فرانكل: “إن التشييء قد أصبح الخطيئة الأولى في العلاج النفسي. فالإنسان ليس [شيئا] … وقد اعتبرت المرضى كائنات إنسانية، ولم أعاملهم على أنهم ميكانيزمات (Mechanisms) تحتاج إلى إصلاح”. إنَّ ذات الإشكالية لا زالت قائمة في المجال الطبي إلى يومنا هذا، حقا إنه أمر يدعو للتفكر ..

– يعتقد الكثير من الناس أن التفكير المفرط أو التحليل المبالغ قدرة آمنة ومنقذة دائما، ولا يعلمون أنه هوس وإعاقة عقلية وهدم ذاتي. ويزيد خطر هذا السلوك كلما ارتبط القصد المفرط (Excessive intention) بالاهتمام المفرط (Excessive attention)، فالإفراط في القصد والتفكير من شأنهما أن يخلقا أنماطا عصابية من السلوك، كما يقول فرانكل. والعصاب (Neurosis) هو نوع من أنواع التوتر أو القلق الذي يؤدي إلى اضطراب في الشخصية والاتزان النفسي.

– إذاً، بحسب التعريف .. كلنا عصابيون !

– اقتبس فرانكل في آخر كتابه [الإنسان يبحث عن المعنى] الذي دوّن فيه تجربته في المعسكرات النازية، وكتب مقدمة وجيزة عن العلاج بالمعنى: “هناك أمر واحد أخشاه؛ ألا أكون جديرا بمعاناتي !”.

– لم أصل لمنتصف الكتاب حتى تصاغرت وتضاءلت ومشاكلي كذلك. ومن المهم أن نعي أن العيش بذهنية الضحية (=المظلوم)، هو موت مُعجّل، أو انتحار مقنّع. وصدق العوام في قولهم “من شاف مصيبة غيره .. هانت عليه مصيبته”، إلا أن لهذا المفهوم مفعوله المسكّن قصير العمر.

Viktor Frankl

– صديقي محمد طيب، مهتم بالطب النفسي، ومدرسة العلاج بالمعنى، تعلَّمت منه الكثير عندما حاضر مرتين، يعرض النموذج الذي ينبثق منه العلاج بالمعنى، وتاريخ تطور مدارس علم النفس وروادها .. 

– كتب الأستاذ أحمد الحمدي في مدونته قراءة واعية -من مختص ومهتم بعلم النفس- لكتاب فرانكل [الإنسان يبحث عن المعنى] .. أنصح بقراءتها عليها.

– أخيرا، لا يفوتني أن أذكر أن للرئيس الراحل علي عزت بيچوڤيتش تجربة ونموذج لا يقل أهمية عن تجربة ونموذج ڤيكتور فرانكل. وسأحرص أن أكتب عنها لاحقا في جمعة أخرى.