– لو أننا تأمّلنا أكثر، وتريّثنا أكثر، وقرأنا أكثر، لازددنا يقينا من أننا لم نعرف شيئا. لكن هذه المعرفة القليلة والضحلة؛ هي سبب كثير من معاناتنا المؤلمة.
– كم من الأفكار تقفز في الوقت ذاته بكل اتجاه! لكننا لا نقدس سوى فكرة واحدة.
– هذا هو التعصب الأعمى تجاه أمر وحيد. إن العصبية مزيج بين عاملين: الفكري والسلوكي. فحدّيّة في الأفكار، كاستخدام طريقة التفكير بـ [أو]، وطريقة التفكير بأسلوب الحل الوحيد. ويتمثّل العامل السلوكي عامة في ضعف إمكانية انسلاخ الشخص عن الأنا، فيصبح رقاً لها، فتعجنه كيفما شاءت، وتكسره حينما تريد. عند هذه الفئة من الناس، لا مجال ولا مكان للشك، فهو باعتبارهم خطيئة عظمى، ومناط ضعف لا قوة. كمثل من يسلّم رقبته لحد السيف.
– يقول محمود منقذ الهاشمي في تقديم كتاب عالم النفس والاجتماع إريك فروم [تشريح التدميرية البشرية]: “الشك هو أساس أي تقدّم فكري. ولكن هؤلاء الناس يعيشون على المسلّمات التي لا يملّون من تكرارها، وهم بدلا من الشك يعتمدون على التصديق القَبْلي والتكذيب القبلي”. إن فضيلة الشك هي في إرغامه إيانا على مراجعة أنفسنا في كل مرة يتم ضبطنا في موقف ارتباك من معتقادتنا ومبادئنا. وبذلك فسنكون أقدر على ملاحظة التغيّرات على المستوى الداخلي/الجواني .. كل هذا لن يكون ما دمنا أقرب للحجر، ثابتين دون إرادة، ضد التغيير والحركة، لا نقوى على مجابهة أنفسنا، ونخاف الوحدة .. مُصْمَتين ومُصَمّتين. ولا جزاء يليق بنا سوى النفي في جزيرة الوهم.
– إن أشرس خصلة في الوهم؛ أنه متخفٍّ وملتبس. لن نقبل بيسر وسعة صدر أننا جانبنا الصواب في خيار اتخذناه، أو في تصرّف تجاه موقف ما. إن الوهم عدو الوعي. ومتى ما كبّلنا الوهم بأصفاده، فلا مفر لنا إلا أن نتهجّم وننقلب إلى ما أشبه بحيوانات متوحّشة.
– إن هذا السلوك، بأن يتصرف الشخص بتوحّش، بل ويستلذّ بإطلاق توحّشه على من حوله، هو ما يسمّونه علماء النفس بالسادية. إنه حب سفك الدماء لأجل المتعة. وشنق الابتسامة في مهدها. وحرق ألوان الحياة لتُمسخ، وتتحول سوداء.
– لقد تمكّنت الساديّة، بلا شك، مِن دخول بيوتنا وأماكن عملنا وجلسات الأصدقاء. استطاعت أن تتبوّأ مقعداً مخصصاً على كل طاولة طعام، وطاولة اجتماع، وطاولة المدرسة. أصبحت السادية أحد الظواهر المرضيّة المميِّزة لمجتمعي الصغير حولي، بل وحتى المجتمعات العربية أجمع – كما عبّر عالم النفس د. مصطفى حجازي. أما عن وصف السادية، فأقتبس – بتصرف – من كتاب أستاذ الفلسفة عبدالإله بلقزيز [نهاية الداعية] قوله: “أما ترجمتها – أي السادية – فتكون في صورة سلوك عدواني من شخص أو مجموعة تجاه أفكار وآراء آخرين على نحوٍ لا يتوازن فيه السادي إلا متى الْتَذَّ بالتجريح الذي أصاب به ضحاياه”.
– يُعرف السادي بحبه – بل وبشغفه – لامتلاك السيطرة المطلقة على كل كائن حيّ. كبيراً كان أم صغيراً، رجلاً أم امرأة. وفي لُبّها حرص على استمرارية موضوع السيطرة وعدم القضاء عليه، خلافاً للنكروفيليا [حب الموت]. و”السيطرة الكاملة على إنسان تعني شلّه، وخنقه، وإحباطه” … وتاريخ السادية الشهير يُنسب إلى الأديب الفرنسي ماركيز دو ساد، الذي صورت أعماله اللذة السادية في الأفعال الجنسية لدى شخوص رواياته.
– قد يتبادر إلى ذهن أحدهم أن السادية محصورة في الجنس. إن السادية في أصلها عدوان قبل أن تكون جنساً، كما يقول الدكتور مصطفى حجازي. ويفهمها على أنها – أي السادية – هرباً من مازوشية داخلية، من مشاعر الذنب التي تهدد وجوده.
– إن العدوان الذي هو سبب للنتيجة (=السادية)، هو في الأصل نتيجة للقهر الذي يعيش في جحيمه الفرد. القهر الذي نتج عن كبت عدوان خارجي، وتسبّب هذا الأخير بإحباط واضطراب في تحقيق الإنسان نفسه. ونقصد بتحقيق الإنسان نفسه أي قدرته على إيجاد معنى/قوة من حياته الفيزيقية والروحية والفكرية، وكذلك إمكانيته على خلق هذا المعنى/القوة من ذاته وفي ذاته. ومتى ما حصل اختلال في أي من الثلاثية السابقة، فقد أعلن القهر سطوته، وبدأ في عملية تحول الإنسان السّويّ إلى إنسان مقهور. يقول الدكتور حجازي في كتابه [التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور]: “إن فشل تحقيق الذات، فشل الوصول إلى قيمة ذاتية تعطي للوجود معناه، يولّد أشد مشاعر الذنب إيلاماً للنفس، وأقلّها قابلية للكبت والإنكار. هذه المشاعر تفجّر بدورها عدوانية شديدة تزداد وطأتها تدريجياً بمقدار تراكمها الداخلي. وعندما تصل العدوانية إلى هذا الحد لا بد لها من تصريف يتجاوز الارتداد إلى الذات وتحطيمها، كي يصل حد الإسقاط على الآخرين”.
– يُشير الدكتور حجازي في ذات المصدر إلى ما أسماه [قلق الخصاء]. يحصل بتأثير خارجي (=أي قوة خارجية مسيطرة)، ويسبب شعوراً دائما بالتهديد، كذلك مشاعر العجز والنقص وعدم الاكتمال، وتأخذ فرصتها في الزيادة، حتى تصبح تلك المشاعر ما يميّز ذلك الإنسان المقهور، إنسان المهانة. فليس بوسعه أن ينزل نفسه منزلة المتسلّط، ولا حتى المقارنة. وأقتبس مما قال في ذلك: “قلق الخصاء يزعزع كيان الإنسان المقهور ويخل بتوازنه، فهو يولّد الآلام المعنوية التي لا تحتمل والتي تمس صورة الذات وقيمتها، وتصيب الاعتبار الذاتي في الصميم. ولذلك فإنه يميل إلى فقدان الالتزام تجاه هذه الذات التي لا تحظى بالاعتبار من خلال الغرق في الرضوخ والتبعية والاستسلام، التي تأخذ جميعاً معنى عقاب هذه الذات المبخسة وتحطيمها”.
– في هذا المقام، كم يبدو نيتشه محقا حينما قال في كتابه [إنسان مفرط في إنسانيته – الجزء الثاني]: “نكره الشيء الجيد حين لا نكون في مستواه”. فالعدوان والكراهية، وإنْ اختلفا في أصلهما، ولكن فيهما تترعرع الأنا وتتضخم.
– يعدد علماء النفس أنواعاً كثيرة للسادية، فهناك السادية الجنسية، والسادية اللفظية، والسادية التملّكية … إلى آخره. في هذا المقال تحديداً، قصدت تحديداً السادية اللفظية أو الكلامية.
– إن الجدال السقيم، الممرض، العقيم، الذي لا يُرجى منه سوى إحباط الآخر، وممارسة القوة والضغط عليه، هو ما نرمي إليه هذا المقال. نحن بحاجة ماسة إلى نتعرّف على السبب الذي يقوم عليه النقاش الذي نحن بصدده، كي نتخذ قرار المتابعة؛ إنْ كان جدالاً هادفاً خاليا من أجندة مريضة، أو قرار الانسحاب. أو ربما، كما يذهب شوبنهاور، تدمير الآخر الذي، يعي أو لا يعي، ممارسته للسادية في الجدال.
– إن إحدى الإشكالات المتعلّقة بالجدل، وتحديداً عندما يتحوّل إلى مبارزة كلاميّة، هي عندما يتحول تفكير أحد الطرفين أو كلاهما، إلى ما أسماه إريك فروم بـ[التفكير الزائف]. وخطورته تكمن في أن التفكير الزائف قد يكون عقلانياً ومنطقياً، وليس يظهر عليه أي ملمح تشوّه أو تتخلله ثغرات، في غير مرّة. ولكنه أشار إلى نقطة غاية في الأهمية، وهي ضرورة الأخذ في الحسبان الحالة السلوكية والشعورية والدوافع السيكولوجية لدى الشخص نفسه، عندها نستطيع التعامل مع الموضوع بشكل أكثر شمولية. يقول فروم في كتابه [الخوف من الحرية]: “ليست النقطة الحاسمة هي ما يجري التفكير فيه، بل كيف يجري التفكير فيه”. وكذلك يقول مؤكداً على ما سلف في كتابه [تشريح التدميرية البشرية]: “إن القاعدة السلوكية العامة التي فحواها أن السلوك القابل للملاحظة هو المعلومة التي يُعتمد عليها علمياً ليست صحيحة على الإطلاق. فالحقيقة هي أن السلوك نفسه يختلف اعتماداً على الدوافع الاي تحرّصه، ولو أن هذا الاختلاف قد لا يكون بائناً لدى المعاينة السطحية”.
– إن الشعور والدافع الداخلي لدى ذلك الإنسان المقهور -الذي قد يكون أنا وأنت- على أن يكون دائما على صواب، بأي ثمن كان، ودونما كثير تحقق وتأمل عن حيثيات الموضوع، ليس شيئا آخر، حسب رأي آرثر شوبنهاور، غير التعبير عن [فساد النوع الإنساني].
– إن طبيعة الحوار السادي الذي يقوم بين اثنين ساديين هو مجرّد محاولة للسيطرة على الآخر وإثبات الذات، وتغليب ما يسميه شوبنهاور [الكبرياء الفطرية] على حساب الموضوعية. “إن الكبرياء الفطرية سريعة الانفعال لاسيّما في ما يخصّ الملكات العقلية، إذ ليست تقبل أن يظهر إثباتنا كاذباً، وليست تقبل أن بكون إثبات الخصم صحيحاً” … إن ذلك الحوار ما هو إلا جدل مرائي [مشاغبي]. يستخدم في الطرف المسيطر كل السبل، المشروعة وغير المشروعة، الأخلاقية وغير الأخلاقية، الصادقة والكاذبة، من أجل شيء واحد، وهو الإطاحة بالآخر. “بهذه الطريقة يتعاضد ضعف ذكائنا وفساد إرادتنا تعاضداً تبادلياً”.
– أن تكون منقاداً بفعل العدوان نحو العمى، يعني أنك لا تهتم بصلب موضوع الجدال، بل بطعم وحلاوة الانتصار وقهر الآخر وإحباطه .. يعني أنك لا تكترث سوى لحلاوة أن تكون دائما على صواب. لذلك فقد أُعجبت بما قاله شوبنهاور ملخّصا المسألة: “أي شيء هو فن أن نكون دائما على صواب، إن لم نكن في أعماقنا على صواب أو لا؟ إذن، إنه فن الوصول إلى ظاهر الحقيقة دون الاهتمام بموضوع المطارحة”.
– للفيلسوف المتشائم آرثر شوبنهاور كتاب غير مشهور عنوانه [فن أن تكون دائماً على صواب]، وهو عنوان ساخر بامتياز. ابتدأ كتابه بتأصيل عميق عن سبب قيامه عليه، وتفصيل شديد عن ميكانيزم الجدل المرائي العبثي. وقد أحصى شوبنهاور ثمانية وثلاثين طريقة أو حيلة يتذرّع.
– كلمة على هامش الموضوع: كنت عند نهاية شرح كل حيلة والأمثلة عليها، أضحك. إن ما يقدّمه هذا الكتاب يُشبه الجدل اليومي الذي نشهده، أو نكون طرفاً فيه. يمكن أن أُلخّص تجربتي مع هذا الكتاب في جملة واحدة [ضحك هرباً من البكاء].
-في كل مرة يزداد يقيني بما قاله جان جاك روسو -كتاب [أصل المساواة بين البشر]- يزداد معه ألمي، يقول: “لقد وُلد الإنسان حرّاً؛ لكنه مُقيّد بالسلاسل حيثما كان”.
– باتت مهمة الشخص اليوم صعبة للغاية؛ يتحتم عليه إدلاء رأيه في كل خبر! العالم بحاجة ماسّة إلى رأيك، فأنت خبير في جميع المجالات يا صاح! .. ولكنك -بكل أسف- قد نسيت أنّ “الاقتصاد في الكلام هو الاحترام الذي يقدمه الشخص لأعماق ذاته اللامتناهية”.
– وإذا كنت يا صاح من محبي اللهث وراء الحلول، ولا تعجبك هذه الطريقة في طرح الآراء، فابحث عن مقال سابق كنت قد كتبته بعنوان [فلتقل خيراً] عن العفة اللفظية .. ففيه قد تجد ضالتك.
– نهاية أقول: مما يستدعي السخرية ويثيرها، أن كل واحد سيسعى إلى الدفاع عن قضيّته مهما تطلّبه الأمر .. وإن بدت له كاذبة أو مشكوكاً فيه.
لكل صديقين مقربين طقسٌ خاص يجمعهما، يختلف تماماً عن الطقوس والعادات التي تجمع الواحد منهما مع صديق آخر. وعندما أتحدث عن طقسي أنا وصديقي البعيد الوحيد هذا، فأنا أقصد مراسلات الصباح. وقد مضى وقت طويل على آخر مرة اجتمعنا فيها، ولا أبالغ إن قلتُ أنني لا أتذكر آخر مرة تلك !
استيقظت ذات صباح وتناولت هاتفي وأرسلت له:
عندما يصبح كل شيء مألوفاً ..
عندما تتساوى أخبار الفرح والترح ..
أعلم أني قد غرقت في بحر الوحدة !
كل شيء يغدو فاقداً معناه حين تغيب ..
كل مشهد حياة يستحيل عدماً حين تغيب ..
لا شيء هنا سوى شوق مؤلم …
نعم، إن البعد شتاؤه قارس !
نعم، إن شتاء البعد قارس !
عند الحديث عن المراسلات، هنالك أمر واحد يزعجني، وهي لحظات الترقُّب والانتظار، فأصبح مثل محمود درويش حينما قال: “في الانتظار، يصيبني هَوَسٌ برصد الاحتمالات”. كلنا يجيدُ السباحة في الخيال أثناء الانتظار …
فأرسل لي صباح اليوم التالي، يقول:
منذ صبيحة يوم العيد يا صديقي، وأنا لم أبرح مكاني إلا قليلاً، بسبب المرض. مضى يومان دون أن أحتفل بالعيد، أو أبارك لأحد. لم أهنأ بوجبة فارهة تليق بهذه الأوقات من السنة، كل ما أستطيع تناوله هو نصف رغيف مع كوب دافئ من الشاي.
يمضي اليوم بتثاقل شديد، تمر الساعات ببطئ ممل. أتذكّر أنني لم أتحدث إلى أحد خلال يومين! فأتساءل: هل جُننت أم ليس بعد!؟ ثم أضحك من جرأتي على سؤال كهذا!! … عندما تكون وحيداً، لا سبيل سوى أن تكون حنوناً مع نفسك ..
وتراودني فكرة، تُرى هل هذه بوادر الإقبال على عامٍ جديد!؟
فبعثت له برسالة قلت فيها:
لقد مضى وقت طويل يا صديقي على عزلتك. وقد يكون سبب حالك هو إصرارك على أن تبقى بعيداً وحيداً ..
جرّبت الوحدة لأسبوع ثم كفرت بها، ففي الوحدة كل شيء يصبح بارداً. مشاعري باردة. نبرة صوتي، نظراتي، ردود أفعالي. الأمر لا يشبه سكون العزلة في شيء. ففي حضرة السكون تصبح الأفكار متّسقة وأكثر انتظاماً، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر. إن تردّد إحساسي بهذا البرود، صقل فيّ براعة التنبؤ بقدومه. أشعر بنبضات قلبي وهي تصارعه، ألم أقلّ لك سابقاً إن النّبض أُمِّيٌّ في تزوير المشاعر!؟ .. إن جمود المشاعر حربٌ يقيمها القلب علينا لكي نستيقظ، لكي نتحرّر من حالة الموات التي أحقمنا أنفسنا فيها.
أنا الآن في المقهى، للتو فرغت من كتابة مقالتي الأسبوعية. أنظر من حولي، فأرى مجموعات عديدة. هنالك ستة شبان يتحدثون عن مشروع يدرّ المال عليهم. وعن يميني، ثلاثة كهول، عبثت الحياة بملامحهم أيما عبث، فقرّروا عقد هدنة مع مسؤولياتهم، ويمضون وقتهم بلعب الورق … ما زال شعور البرد يحاصرني. صوت عن شمالي يوسوس لي: ذلك هو برود الوحدة يا عبدالرحمن! .. فأضحك هازئا منه، وأقول: أظن أنه كلما غرقت في الوحدة أصبحت أقل عنفا .. وأكثر صبراً.
ولكن يا صديقي، متعةٌ هُمُ الناس .. يعرف هذا جيداً من سُلبت منه الفرصة، رغماً عنه، لا باختياره. وأذكر الكاتب المصري مصطفى أمين أنه قد صدّر كتابه [مسائل شخصية] بمقدمة رائعة تناول فيها مختلف المعاني التي وجدها من الناس الذين خالطهم طيل حياته، فهنالك من هم كقطع الشطرنج يُحرّكون ولا يتحرّكون، وهنالك من تمر الرياح وألوان قوس قزح من خلالهم من شدة شفافيتهم .. أقتبس منه: “أجمل ما في الدنيا هم الناس، متعتي الكبرى في هذه الحياة أن أعرف الناس، أن أعرفهم من الخارج والداخل، أن أدرسهم وأحبهم، أحببت الكثيرين ولم أكره أحداً، كنت أعامل الذين يكرهونني كأنهم مرضى، وأدعو لهم بالشفاء، وكنت أعطي عذراً للطبيعة البشرية، وأعذر الفاشل الذي يحقد على الناجح، وأعذر الضعيف الذي يكره القوي، وأجد مبرراً للفئران عندما تمقت السباع!
عرفت أقزاماً كالعمالقة، وعمالقة كالأقزام. عرفت أقواماً طوالاً عراضا من خارجهم، وصغاراً متضائلين من داخلهم، عاشرت الملوك والصعاليك، وعرفت صعاليك لهم طباع الملوك، وملوكاً لهم أخلاق الصعاليك، عشت مع النجوم في سمائها، ورأيت حولها الشياطين أكثر من الملائكة، وعاشرت الفاشلين… ورأيت مواكب النصر تحف بها الطبول والزمور والهتافات والزغاريد، وشهدت مآثم الهزيمة تنهمر منها الدموع وأصوات البكاء والعويل”.
فتركني صديقي قرابة أسبوع دون أن ينطق بحرف واحد. ثم عاد وبعث لي برسالة في آخر الليل، على غير عادتنا، قال فيها:
أبحث عن حروف .. أبحث عن كلمات أنثرها على صفحة رسالتي البيضاء، ولكن الفوضى تعبث برأسي. لا شيء سوى الفراغ. الأمر يكاد يزج بي في سجن الجنون.
قلبي يرفرف لا أعلم ما شأنه. عقلي فارغ يلهث من شدة الجوع. يداي الهزيلتان تحاول التقاط الأفكار من الهواء بلا فائدة.
في الليل لا أجيد سوى النواح، وأحاديث النفس. أفكر فيما سأفعله في الغد؛ لا شيء جادّ بانتظاري. أنظر مليّا داخلي .. فأتيقّن مجدداً أن انشغالي قد استنزف مني الكثير. كنتَ محقا يا صديقي، لقد أتلفتُ عديداً من اللحظات الفاخرة بسبب إفراطي في التفكير والوحدة.
ولكن حقٌّ هو ما أنشده محمود درويش حين قال: “يكفي أن تكون وحدك لتصبح قبيلة”، فالجنة حينما تكون بقربك وبصحبتك فرحا، لا شيء يعكر صفو مزاجك، على الرغم من كل ما يحدث في محيطك وفي أرجاء البسيطة.
يا صديقي .. “في داخلي شُرْفَةٌ لا يَمُرُّ بها أَحَدٌ للتَّحيَّة” ..
وقد قررت أن أحيا في تلك الشُّرفة، دون أن أتزحزح عنها شبرا ..
فالوحدة دواء المكتظ بالعبث .. ونداؤها؛ إذعان لترتيب داخلي !
وفي الوحدة كل شيء يبدو جميلا .. عدا الوحدة ذاتها ..
لقد حملتُ نفسي على الوحدة بعدما أيقنت بأن لدي لسان لاذع! .. لقد غرسَت الحياة في لساني الشوك.
ولا تثقل عليّ يا صديقي بالمواعظ، فأنا أوبّخ قلبي كل ليلة على هذه القسوة التي حملني عليها. وسألت نفسي: ما أعظم ما أخشاه!؟ فأجبت دونما أي تردد: الوحدة .. أقصد بها؛ أن يأتي يوم أحتاج فيه إلى صديق أصيل، يحتاج فيه قلبي إلى جاره القديم. تلك لحظة الوحدة الحقيقة!
من اكتفى برفقة الوحدة .. لن يجد مستقبلا سوى الشيطان !