مجتزأ من: رسالة إلى مشرّد لم تجد طريقها إليه

kelas-sosial-1

مع مرور السنوات، علاقتي مع ساعتي البيولوجية تتحسن تدريجيا، وخبرتي في الاستيقاظ من النوم قبل إزعاج المنبه كذلك تحسنت. أنهض متثاقلاً عن سريري الضيّق. وأنظر إلى ساعة الحائط بخفّة، أجد الوقت ما يزال مبكّراً على النهوض، فأتسوّل مزيداً من الدقائق أتمرّغ فيها على فراشي أو أغمض عيني وأطلب غفوة تعيسة … أستيقظ مجدداً، ولكنني أرتعش هلعاً هذه المرة. ها قد حان موعد النهوض، أقول لنفسي. أرتّب ملامحي ووجهي بما يليق بمزاجي لهذا اليوم، وأذهب لارتداء زي العمل، اقتنيت عدداً منها بنفس المقاس واللون. لا وقت أضيّعه هنا. أخطو مسرعاً نحو سيارتي .. وأنا أمسك بمقبض باب السيارة، أتذكر أني نسيت المفتاح، فأشتم الغباء، وأتساءل: هل هذه بوادر ألزهايمر؟ .. أعود خافضاً رأسي لآخذ مفاتيحي. وأنا في طريقي إلى الخارج للمرة الثانية، آخذ قراراً جريئاً. قررت ببساطة أني سأتغيّب عن الدوام لهذا اليوم. فلا بأس أن نأخذ قرارات طائشة في بعض الأحيان. ليس للأمر علاقة باللامبالاة أو الإهمال، كل ما في الأمر أني أشعر بالحياة أكثر حينما أكون عفوياً وبسيطاً. أريد أن أكون أقل آلية .. وأقل وفاء للواجب .. فأنا لا أنتمي للأرض والطين والعشب، أنا ابن الصوت والنسمة والنَّفَس والسماء. إن نصف العفوية، على الأقل، حب المغامرة واستكشاف المجهول. وبعد عشرين سنة عشتها على نفس الوتيرة، سبعة آلاف وثلاثمائة يوم كلها تشبه بعضها .. أشعر بأنه يمكن ألا يؤْثر الشخص على نفسه شيئا، في يوم غائم جميل كهذا. 
يزورني أحياناً شعور بأني لم أعد أعرفني، فقد تغيّرت جميع الملامح التي اعتدها عليّ. عبث يعلوه عبث. وهذا أمر مألوف عند الذين يعرفون أنفسهم جيداً. ليس أمراً شيّقاً أن “أتابع في داخلي حفلات التنكّر المتعددة، التي تجعلني على قيد الحياة”، ولكنني -كغيري من الناس- مرغم على ذلك. إنه ليؤلمني أني لا أملك الاستطاعة على البقاء على حالي، فالعيش في هذا العالم المشوّه لا يمكن سوى للمتغيّر .. والمتقلّب .. لمن يشبه الحرباء. 
تركت تلك الأصوات خلفي ومضيت قائلا: فلنعيش هذا اليوم بكل ما أوتيت من حياة .. نُبعثر التوتر والقلق والاعتياد، ونتنفس هواء الحرية الفاتن.
تذكرت أني أنهيت ليلة أمس كتاب [تجوال] لهرمان هيسه، وأظنه من قام بترك باب زنزانتي مفتوحا قبل مغادرته، أظن أنه هو سبب هذه الجرأة. أذكر أني لم أتحمل عذوبة اللوحة التي رسمها برشح الحب وريش الحرية، عندما قال: “إني لأستشعر الحياة ترتعش في كياني، على لساني، وحتى أخمص قدمي، في رغباتي أو عذاباتي، أريد لروحي أن تكون روحاً دائمة الترحال، قادرة على العودة في مئات الأشكال، أريد أن أحلم بنفسي قسّاً وجوّالاً، ##طاغية## وقاتلاً، طفلاً وحيواناً، وأكثر من أي شيء آخر طائراً وشجرة؛ ذلك أمر بالغ الضرورة، وإني لأريده، وأحتاج إليه لأتمكن من مواصلة العيش، وفي الآن الذي يعتريني فيه الشعور بضياع هذه الإمكانات، وبأني مقبوض فيما يدعى بالواقع، فإني آنئذ أفضل الموت”.
فقررت أن أخرج هذا الصباح لأتجول بصحبة العالم، المهم هو أن أرى كل شيء، وأن أراه كأني أرى لأول مرة، المهم أن أترك التفكير وأشاهد. قررت الخروج لآتي بفصل الربيع، فتتفتّح أزهار لساني، وينثر الغبار والشوك عنه. قررت الخروج لأصير شاعراً، ولو لنهار واحد، ولو لساعة، ولو للحظة، أريد “قول ما أحسّ به .. من دون أن أقول إني أحسّه”.
“حياة الجوّال الحقيقية، الحياة التي أحب، التجوال دون أية وجهة محددة، بيسر وسهولة تحت أشعة الشمس، حياة متشرد كامل الحرية” .. فشبكنا أيدينا أنا وقراري، وأخذنا نبدأ يومنا بهذه الجولة الصباحية في شوارع المدينة …
إنه لمشهد يفطر القلب، رؤية المتشردين يمنة ويسرة في كل زقاق. على حافة الرصيف. بجانب سكة القطار. في الأنفاق وتحت الجسور. عند أبواب المتاجر. وفي محطات المترو.
رأيت أحدهم صباح هذا اليوم، وأنا أنتظر إشارة المرور لأعبر الشارع. هيئة الرجل المتشرد الأسود غاية في الحزن، جالبة للشفقة، وتستدعي التعاسة. قرر أن يعبر الشارع دون أدنى اعتبار لإشارة المرور. يمشي الرجل ببطء وهو يغني بطريقة مريبة مزعجة، ويرفرف بكلتا يديه بطريقة غير متكلّفة وشاذة. رأيت فيه علامات الجنون بغزارة. حينها، لو أن لي أمنية واحدة، لكانت لصالح هذا الرجل المسكين، قلت لنفسي. لو أن للجنون درجة تبخر الإيثانول، لكان الرجل الأذكى في المدينة وقتها. قيل أن بين العبقرية والجنون خيط رفيع. لكن ما شاهدته صباح اليوم، لم يكن قرب الخط الفاصل، بل كان جنوناً تامّاً. يقف عن يساري رجل بكامل الثقة، يرتدي زياً فائق الأناقة، وفي يمينه سيچار كوبي كثيف الدخان، يكاد لا يرى ما حوله من شدة علوّه … هذا التناقض العظيم السخيف، سوف يجعل مني مجنونا .. مجنونا إلى درجة تجعل الرجل الأسود المتشرد يضحك ويقهقه حتى يسقط أرضاً، ثم يتلحّف بالسحابة التي تعلوه، وينام من شدة الإرهاق …
أسمع صوتا يرتد بعد صدى كلمات ذلك الرجل، وهو يقتبس من هرمان هسه، يقول: “العيش مع الآخرين، بالنسبة لي، هو العذاب. وكل الآخرين موجودين داخلي. حتى لو كنت بعيداً عنهم، أنا مضطر للعيش معهم. وحدى، تطوقني الحشود. لا أعرف إلى أين أهرب، على الأقل لأهرب من نفسي … أريد لكل شيء أن يتبخر مني. حياتي بأسرها، ذكرياتي، مخيلتي وما تحتويه، شخصيتي .. أريد لكل شيء أن يتبخر مني الآن .. أنا رجل يبحث لا رجل يدّخر”.
إن أجمل ما في حياة الشارع أنها بالغة في العفوية. ولكن هكذا يراها من هو مثلي، من اختار أن ينزل الشارع كي يشاهد ويستمتع ويعود لمنزله متى شاء. ولكن ربما كان من الهيّن أن أركز على الجوّال الذي يسكن داخل ذلك المتشرد وكل المتشردين. 
وأنا عائد في طريقي إلى البيت، وجدتني أردد سطر فرناندو بيسوا دون تعب أو ملل:
“تضاعفت كي أُحسّني،
ولأحسّني، احتجت إحساس كل شيء؛
فِضت، انتهى الأمر بي بأن أنتشر …”.
آه .. لو كان بمقدوري رؤية ما لا أريد رؤيته، لكنت إنساناً! .. ولو كان بمقدوري رؤية كل ما لم أقصد رؤيته، لصرت إنساناً كاملاً!!
آه .. لو كان بمقدوري اختيار ما أريد، لكنت إنساناً! .. ولو كان بمقدوري رفض كل ما لا أريد، لصرت إنساناً كاملاً!!

فن أن تكون دائماً أحمقاً

  


– لو أننا تأمّلنا أكثر، وتريّثنا أكثر، وقرأنا أكثر، لازددنا يقينا من أننا لم نعرف شيئا. لكن هذه المعرفة القليلة والضحلة؛ هي سبب كثير من معاناتنا المؤلمة.


– كم من الأفكار تقفز في الوقت ذاته بكل اتجاه! لكننا لا نقدس سوى فكرة واحدة.


– هذا هو التعصب الأعمى تجاه أمر وحيد. إن العصبية مزيج بين عاملين: الفكري والسلوكي. فحدّيّة في الأفكار، كاستخدام طريقة التفكير بـ [أو]، وطريقة التفكير بأسلوب الحل الوحيد. ويتمثّل العامل السلوكي عامة في ضعف إمكانية انسلاخ الشخص عن الأنا، فيصبح رقاً لها، فتعجنه كيفما شاءت، وتكسره حينما تريد. عند هذه الفئة من الناس، لا مجال ولا مكان للشك، فهو باعتبارهم خطيئة عظمى، ومناط ضعف لا قوة. كمثل من يسلّم رقبته لحد السيف.


– يقول محمود منقذ الهاشمي في تقديم كتاب عالم النفس والاجتماع إريك فروم [تشريح التدميرية البشرية]: “الشك هو أساس أي تقدّم فكري. ولكن هؤلاء الناس يعيشون على المسلّمات التي لا يملّون من تكرارها، وهم بدلا من الشك يعتمدون على التصديق القَبْلي والتكذيب القبلي”. إن فضيلة الشك هي في إرغامه إيانا على مراجعة أنفسنا في كل مرة يتم ضبطنا في موقف ارتباك من معتقادتنا ومبادئنا. وبذلك فسنكون أقدر على ملاحظة التغيّرات على المستوى الداخلي/الجواني .. كل هذا لن يكون ما دمنا أقرب للحجر، ثابتين دون إرادة، ضد التغيير والحركة، لا نقوى على مجابهة أنفسنا، ونخاف الوحدة .. مُصْمَتين ومُصَمّتين. ولا جزاء يليق بنا سوى النفي في جزيرة الوهم.


– إن أشرس خصلة في الوهم؛ أنه متخفٍّ وملتبس. لن نقبل بيسر وسعة صدر أننا جانبنا الصواب في خيار اتخذناه، أو في تصرّف تجاه موقف ما. إن الوهم عدو الوعي. ومتى ما كبّلنا الوهم بأصفاده، فلا مفر لنا إلا أن نتهجّم وننقلب إلى ما أشبه بحيوانات متوحّشة.


– إن هذا السلوك، بأن يتصرف الشخص بتوحّش، بل ويستلذّ بإطلاق توحّشه على من حوله، هو ما يسمّونه علماء النفس بالسادية. إنه حب سفك الدماء لأجل المتعة. وشنق الابتسامة في مهدها. وحرق ألوان الحياة لتُمسخ، وتتحول سوداء.


– لقد تمكّنت الساديّة، بلا شك، مِن دخول بيوتنا وأماكن عملنا وجلسات الأصدقاء. استطاعت أن تتبوّأ مقعداً مخصصاً على كل طاولة طعام، وطاولة اجتماع، وطاولة المدرسة. أصبحت السادية أحد الظواهر المرضيّة المميِّزة لمجتمعي الصغير حولي، بل وحتى المجتمعات العربية أجمع – كما عبّر عالم النفس د. مصطفى حجازي. أما عن وصف السادية، فأقتبس – بتصرف – من كتاب أستاذ الفلسفة عبدالإله بلقزيز [نهاية الداعية] قوله: “أما ترجمتها – أي السادية – فتكون في صورة سلوك عدواني من شخص أو مجموعة تجاه أفكار وآراء آخرين على نحوٍ لا يتوازن فيه السادي إلا متى الْتَذَّ بالتجريح الذي أصاب به ضحاياه”.


– يُعرف السادي بحبه – بل وبشغفه – لامتلاك السيطرة المطلقة على كل كائن حيّ. كبيراً كان أم صغيراً، رجلاً أم امرأة. وفي لُبّها حرص على استمرارية موضوع السيطرة وعدم القضاء عليه، خلافاً للنكروفيليا [حب الموت]. و”السيطرة الكاملة على إنسان تعني شلّه، وخنقه، وإحباطه” … وتاريخ السادية الشهير يُنسب إلى الأديب الفرنسي ماركيز دو ساد، الذي صورت أعماله اللذة السادية في الأفعال الجنسية لدى شخوص رواياته. 


– قد يتبادر إلى ذهن أحدهم أن السادية محصورة في الجنس. إن السادية في أصلها عدوان قبل أن تكون جنساً، كما يقول الدكتور مصطفى حجازي. ويفهمها على أنها – أي السادية – هرباً من مازوشية داخلية، من مشاعر الذنب التي تهدد وجوده.


– إن العدوان الذي هو سبب للنتيجة (=السادية)، هو في الأصل نتيجة للقهر الذي يعيش في جحيمه الفرد. القهر الذي نتج عن كبت عدوان خارجي، وتسبّب هذا الأخير بإحباط واضطراب في تحقيق الإنسان نفسه. ونقصد بتحقيق الإنسان نفسه أي قدرته على إيجاد معنى/قوة من حياته الفيزيقية والروحية والفكرية، وكذلك إمكانيته على خلق هذا المعنى/القوة من ذاته وفي ذاته. ومتى ما حصل اختلال في أي من الثلاثية السابقة، فقد أعلن القهر سطوته، وبدأ في عملية تحول الإنسان السّويّ إلى إنسان مقهور. يقول الدكتور حجازي في كتابه [التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور]: “إن فشل تحقيق الذات، فشل الوصول إلى قيمة ذاتية تعطي للوجود معناه، يولّد أشد مشاعر الذنب إيلاماً للنفس، وأقلّها قابلية للكبت والإنكار. هذه المشاعر تفجّر بدورها عدوانية شديدة تزداد وطأتها تدريجياً بمقدار تراكمها الداخلي. وعندما تصل العدوانية إلى هذا الحد لا بد لها من تصريف يتجاوز الارتداد إلى الذات وتحطيمها، كي يصل حد الإسقاط على الآخرين”.


– يُشير الدكتور حجازي في ذات المصدر إلى ما أسماه [قلق الخصاء]. يحصل بتأثير خارجي (=أي قوة خارجية مسيطرة)، ويسبب شعوراً دائما بالتهديد، كذلك مشاعر العجز والنقص وعدم الاكتمال، وتأخذ فرصتها في الزيادة، حتى تصبح تلك المشاعر ما يميّز ذلك الإنسان المقهور، إنسان المهانة. فليس بوسعه أن ينزل نفسه منزلة المتسلّط، ولا حتى المقارنة. وأقتبس مما قال في ذلك: “قلق الخصاء يزعزع كيان الإنسان المقهور ويخل بتوازنه، فهو يولّد الآلام المعنوية التي لا تحتمل والتي تمس صورة الذات وقيمتها، وتصيب الاعتبار الذاتي في الصميم. ولذلك فإنه يميل إلى فقدان الالتزام تجاه هذه الذات التي لا تحظى بالاعتبار من خلال الغرق في الرضوخ والتبعية والاستسلام، التي تأخذ جميعاً معنى عقاب هذه الذات المبخسة وتحطيمها”.


– في هذا المقام، كم يبدو نيتشه محقا حينما قال في كتابه [إنسان مفرط في إنسانيته – الجزء الثاني]: “نكره الشيء الجيد حين لا نكون في مستواه”. فالعدوان والكراهية، وإنْ اختلفا في أصلهما، ولكن فيهما تترعرع الأنا وتتضخم.


– يعدد علماء النفس أنواعاً كثيرة للسادية، فهناك السادية الجنسية، والسادية اللفظية، والسادية التملّكية … إلى آخره. في هذا المقال تحديداً، قصدت تحديداً السادية اللفظية أو الكلامية.


– إن الجدال السقيم، الممرض، العقيم، الذي لا يُرجى منه سوى إحباط الآخر، وممارسة القوة والضغط عليه، هو ما نرمي إليه هذا المقال. نحن بحاجة ماسة إلى نتعرّف على السبب الذي يقوم عليه النقاش الذي نحن بصدده، كي نتخذ قرار المتابعة؛ إنْ كان جدالاً هادفاً خاليا من أجندة مريضة، أو قرار الانسحاب. أو ربما، كما يذهب شوبنهاور، تدمير الآخر الذي، يعي أو لا يعي، ممارسته للسادية في الجدال.


– إن إحدى الإشكالات المتعلّقة بالجدل، وتحديداً عندما يتحوّل إلى مبارزة كلاميّة، هي عندما يتحول تفكير أحد الطرفين أو كلاهما، إلى ما أسماه إريك فروم بـ[التفكير الزائف]. وخطورته تكمن في أن التفكير الزائف قد يكون عقلانياً ومنطقياً، وليس يظهر عليه أي ملمح تشوّه أو تتخلله ثغرات، في غير مرّة. ولكنه أشار إلى نقطة غاية في الأهمية، وهي ضرورة الأخذ في الحسبان الحالة السلوكية والشعورية والدوافع السيكولوجية لدى الشخص نفسه، عندها نستطيع التعامل مع الموضوع بشكل أكثر شمولية. يقول فروم في كتابه [الخوف من الحرية]: “ليست النقطة الحاسمة هي ما يجري التفكير فيه، بل كيف يجري التفكير فيه”. وكذلك يقول مؤكداً على ما سلف في كتابه [تشريح التدميرية البشرية]: “إن القاعدة السلوكية العامة التي فحواها أن السلوك القابل للملاحظة هو المعلومة التي يُعتمد عليها علمياً ليست صحيحة على الإطلاق. فالحقيقة هي أن السلوك نفسه يختلف اعتماداً على الدوافع الاي تحرّصه، ولو أن هذا الاختلاف قد لا يكون بائناً لدى المعاينة السطحية”.


– إن الشعور والدافع الداخلي لدى ذلك الإنسان المقهور -الذي قد يكون أنا وأنت- على أن يكون دائما على صواب، بأي ثمن كان، ودونما كثير تحقق وتأمل عن حيثيات الموضوع، ليس شيئا آخر، حسب رأي آرثر شوبنهاور، غير التعبير عن [فساد النوع الإنساني].


– إن طبيعة الحوار السادي الذي يقوم بين اثنين ساديين هو مجرّد محاولة للسيطرة على الآخر وإثبات الذات، وتغليب ما يسميه شوبنهاور [الكبرياء الفطرية] على حساب الموضوعية. “إن الكبرياء الفطرية سريعة الانفعال لاسيّما في ما يخصّ الملكات العقلية، إذ ليست تقبل أن يظهر إثباتنا كاذباً، وليست تقبل أن بكون إثبات الخصم صحيحاً” … إن ذلك الحوار ما هو إلا جدل مرائي [مشاغبي]. يستخدم في الطرف المسيطر كل السبل، المشروعة وغير المشروعة، الأخلاقية وغير الأخلاقية، الصادقة والكاذبة، من أجل شيء واحد، وهو الإطاحة بالآخر. “بهذه الطريقة يتعاضد ضعف ذكائنا وفساد إرادتنا تعاضداً تبادلياً”.


– أن تكون منقاداً بفعل العدوان نحو العمى، يعني أنك لا تهتم بصلب موضوع الجدال، بل بطعم وحلاوة الانتصار وقهر الآخر وإحباطه .. يعني أنك لا تكترث سوى لحلاوة أن تكون دائما على صواب. لذلك فقد أُعجبت بما قاله شوبنهاور ملخّصا المسألة: “أي شيء هو فن أن نكون دائما على صواب، إن لم نكن في أعماقنا على صواب أو لا؟ إذن، إنه فن الوصول إلى ظاهر الحقيقة دون الاهتمام بموضوع المطارحة”.


– للفيلسوف المتشائم آرثر شوبنهاور كتاب غير مشهور عنوانه [فن أن تكون دائماً على صواب]، وهو عنوان ساخر بامتياز. ابتدأ كتابه بتأصيل عميق عن سبب قيامه عليه، وتفصيل شديد عن ميكانيزم الجدل المرائي العبثي. وقد أحصى شوبنهاور ثمانية وثلاثين طريقة أو حيلة يتذرّع.


– كلمة على هامش الموضوع: كنت عند نهاية شرح كل حيلة والأمثلة عليها، أضحك. إن ما يقدّمه هذا الكتاب يُشبه الجدل اليومي الذي نشهده، أو نكون طرفاً فيه. يمكن أن أُلخّص تجربتي مع هذا الكتاب في جملة واحدة [ضحك هرباً من البكاء].   


-في كل مرة يزداد يقيني بما قاله جان جاك روسو -كتاب [أصل المساواة بين البشر]- يزداد معه ألمي، يقول: “لقد وُلد الإنسان حرّاً؛ لكنه مُقيّد بالسلاسل حيثما كان”.


– باتت مهمة الشخص اليوم صعبة للغاية؛ يتحتم عليه إدلاء رأيه في كل خبر! العالم بحاجة ماسّة إلى رأيك، فأنت خبير في جميع المجالات يا صاح! .. ولكنك -بكل أسف- قد نسيت أنّ “الاقتصاد في الكلام هو الاحترام الذي يقدمه الشخص لأعماق ذاته اللامتناهية”.


– وإذا كنت يا صاح من محبي اللهث وراء الحلول، ولا تعجبك هذه الطريقة في طرح الآراء، فابحث عن مقال سابق كنت قد كتبته بعنوان [فلتقل خيراً] عن العفة اللفظية .. ففيه قد تجد ضالتك.

– نهاية أقول: مما يستدعي السخرية ويثيرها، أن كل واحد سيسعى إلى الدفاع عن قضيّته مهما تطلّبه الأمر .. وإن بدت له كاذبة أو مشكوكاً فيه.

مجتزأ من: رسالة إلى صديقي الكاتب

  

في يوم ميلادي، أستقبلُ رسالةً من أحد الأصدقاء. أفتحُ الظرف، فلا أجد سوى ورقتين. تبيّن لي – فيما بعد – أنها هدية. لقد أهداني نصاً فارهاً كتبه منذ وقت طويل. وكنتُ قد مدحتُ نصَّه هذا، حتى أنه ظنّ بأنّي أسخر منه … إنّ هذا لَمِثال معبّر عن الصديق الوفيّ، فقد احتفَظَ بقصاصة الورقة تلك لمدة تقارب العام، ليهديني إياها لاحقاً، في يوم فريد ..
أما الورقة الثانية، فكانت رسالةً شكى وحكى لي فيها معاناته مع قَفْلة في الكتابة. لقد وقع في فخّ الصفحة البيضاء. فما عادت أصابعه تطاوعه. واستحضاره للكلمات بات أمراً صعباً مستحيلا، إنه تائه عن بوابة الإلهام. قال لي: في كل مرة أعْزِمُ على الكتابة، كنتُ أشعر بأنّ وحياً ما يَتنزّل عليّ، يُحدّثني، ويُملي عليّ ما أفعل. حينها يُفلَت مني زمام الأمور، وأخضع مستسلماً دون أدنى محاولة للمقاومة .. لا شيء في حياتي كلها يُساوي النشوة التي أحسّ بها حين أكتب.
وعندما أعود لقراءة ذات النص في وقتٍ ما لاحق، أتفاجأ، بل أكادُ أُجَنُّ، وأتساءل: هل كتبتُ هذا النص حقاً!!؟ .. ومرة تلو مرة، يزداد إيماني بأن شخصية أخرى، أو كائن آخر، أو كاتب آخر، يتلبّسني، ويقوم هو بإدلاء دلْوه. أما أنا، فأحظى بشرف أنّي كنت مَعْبَرَاً لذلك الرزق، فحسب ..
إن آخري الكاتب مُرهف وعاطفيّ. يتعفّف عن الإصرار في نسبة الكتابات إليه. لكنه يتمنّع عندما أُعجَبُ بنفسي وبما كتبتُ. وسريعا أشعر بجفاف غيابه، تلك هي طريقته في التربية، الهجر الجميل! وكأنه بصدّه يُعلّمني درساً من منهج أخلاقيات الكاتب، وأهمية تجاوز الكاتب نفسه …
فكتبتُ إلى صديقي الكاتب:
إني لأجد رسالتك الأخيرة مضحكة جداً، فكثيراً ما يعْلَقَ الكتّاب في شباك قفلة الكتابة. ومعظمهم يجدونها أمراً مزعجاً، وربما قَدَراً مرعباً ..
أما أنا فأعتبرها نقطة تحوّل للكاتب، لا أكثر.
إن الخطر الأعظم الذي يهدد أي كاتب، هو فقدانه للسبب/المعنى الذي يحثّه على اقتراف الكتابة، والمتابعة في اقتحامها مرة تلو الأخرى … وقد اخترت لنفسي هذه الثلاثية، ترنيمة أتلوها قبل الشروع في الكتابة: 
أحمل نفسي على الكتابة؛ كي أنسى ..
كي أغرس بذرة المعنى في صحرائي ..
كي أشدّ وشاح الأمل حول عُنق اليأس ..
وسأخبرك يا صديقي عن طقسي في الكتابة، لإيماني العميق بأنه لا بد للكاتب أن يكوّن طقسه الخاص به حين يكتب، ويعرفه جيداً، ومن ثم يحترمه ..
أبدأ طقسي بكوب قهوة ساخن. أصطحب معي كناشة جديدة وقلم رصاص، لا أستخدمهما عادة، ولكن هكذا أحب أن تكون الأشياء متواجدة أمامي على الطاولة. وهاتفي الذكي؛ هو ضحية محاولاتي في الكتابة. موسيقى كلاسيكية، أُفضِّل بيتهوڤن وشوبن وتشيكوڤسكي على البقية، وفي مرات أنتقي الجاز، لأنها موسيقى مشاغبة وشاعرية في آن واحد، هذه الأخيرة محببة لديّ جداً. عادة ما أتّجه صوب الأماكن المزدحمة بالناس للكتابة، فهم يساعدونني على التركيز أكثر.
اِعلمْ أن الكتابة نداء الطبيعة للكاتب. وعندما يتعلّق الأمر بالكتابة، لن تستطيع تأجيل فكرة ما أو الانشغال بغيرها، وإلا فستتبخر الفكرة، وتهجرك، ستذهب لتختار قلماً غير قلمك، أكثر جدية، وأقل انشغالا! فاخترْ طقسك وحدّد مهمتك، ثم اُمكثْ داخل الكهف حتى يأتيك النداء ..
لا تظن، ولو للحظة واحدة، أنّ حروفك ستبقيك بعيداً عن مشاكل الآخرين، إن الكتابة حربٌ، وليس لك حق فيها سوى تحديد درجة خشونة أو نعومة رصاص أسلحتك. إنها فعل هجومي، فعل ابتداء. ومتى ما كانت ردة فعل، فقدت معناها الأساس!
يا صديقي الكاتب، ما سبق وأسلفت، لا يعني ألا تُجيد الدفاع عن نفسك .. ولكن الدفاع، في هذا السياق، حيلة الضعيف، حيث أن حجم تقرّحات جسدك الناجمة عن شتائم الناس، هي دليل – صارخ ومؤلم – على تطوّر طريقتك في الكتابة. كذلك ستُساعدك على تذكّر عمرك في الكتابة، في كل مرة ترى فيها نفسك أمام المرآة – كما يعرف الرّيفي عمر الشجر المجاور لمنزله.  
ليس أمراً يعيب الكاتب، أن يكون مثالياً، بل هكذا ينبغي أن يكون الكاتب الأصيل، هناك – في المثاليّة – سيجد مستراحاً لعقله. يهرع للكتابة لأنه يؤمن بأنها سبيل للخلاص. ذلك أن خيال الكتابة أصدق من واقعية الواقع/الحياة. نعم، إن واقعية المثالية في كتاباته أقوى من أي واقع.
إن الكاتب الذي يكتب كثيراً، ولا يجد مهربا له سوى الكتابة .. والكاتب الذي لا تفارق يده قلمه وكناشته ..
هو مجرد إنسان يحلم كثيراً. والأحلام بطبعها لا تموت. ولكنها طفيلية، تحتاج إلى كائن حيّ تعيش بداخله، حتى تتسنّى لها الاستدامة. وكذلك فهي أنانية، لا مكان للولاء عندها .. إن الأحلام تختار الأشخاص الأكثر جرأة وإصراراً!
الكاتب هو شخص يعتقد أنه لا يزال ممكناً وصف العالم بطريقة جديدة. يبحث عن الفكرة وراء النص الذي هو بصدد كتابته، يختارها بعناية شديدة، ثم يترك لهيجان إحساسه حرية التعبير عن الفكرة.
تحسّب يا صديقي الكاتب، فالكتابة ستجعلك منك شخصاً مقربا للوحدة، فهي ستستوقفك، وتأسرك، وتُغويك، وستجعل منك مدمنا على كأسها، ومِنْ ثمّ ستعشقها دون ملاحظة. الكتابة ستُرغمك على أن تعيش حياتك مُقِلّاً اختلاطك بالناس؛ إنها فكرة تبدو غاية في الجمال والإثارة .. ولكن، صدقني، أنت لا تريدها أن تتعدى ذلك الحد!!
تأمل في شذرة إلياس كانيني هذه “أنْ يُولَد الإنسان مرات كثيرة أمر عادي بالنسبة له، إنه يريد أن يعيش في مخلوقات كثيرة في الوقت نفسه”. وأنت، بالكتابة، يا صديقي البريء، تقوم بتدوين تاريخ وحالة وآلام كل مخاض وولادة! لذا، فاكتب كلما سنحت لك الفرص، واصنع الفرصة عندما تتآمر عليك الظروف.
إنّ كانيني لم يُجانب الصواب حين نصح صديقه قائلا: “أنت ذكي جدا، عليك أن تخسر أكثر!”. أحمق هو مَنْ ظنّ أن النضج ثمنه بخس! إن النضج ثمرة التجارب، ولن يجده، أي إنسان، مرميّاً على رصيف شارع بيته. إن النضج وليد التأمل والتريّث والوقت! فاصبر على الكاتب الذي يعيش في عروقك وتحت بصمات أصابعك، حتى يظهر.
بعدما فرغتُ من رسالتي إلى صديقي الكاتب. وبمناسبة يوم ميلادي، لَمحْتُ فتحة تخترق سحابة بيضاء فوقي، وإذ بكومة من الأسئلة تتساقط عليّ: هل تشعر بأنك كبُرت عاماً كاملا؟ هل ترى ما يدل على ذلك؟ هل يراودك شعور بأنه ما يزال هنالك طيش كثير لم تجربه بعد؟ هل يليق بك إسبال ثوب الحكمة؟ ألا زلت تتوهم بأنك كاتب؟ هل جرّبت أن تعيش حقاً؟ هل مررت بتجربة حب؟ هل ثملْتَ من حلاوة كلمة؟

مجتزأ من: رسالة من صديقي المكتئب



لقد مرت قرابة أربعة أشهر منذ بدء حالة الكآبة هذه. أشعر وكأن شيئا لم يتغير فيّ .. وكل شيء قد تغيّر في مَن حولي!
حالتي تزداد سوءاً مع مرور الوقت، إنها تحفر وتحفر، لتنتشر. هذه الفجوة التي تُركَتْ بداخلي تكتظّ بصدى أصوات لا أعرف مصدرها .. تصدع وتضرب شمالا وجنوبا !
كل ذلك، بالنسبة لي، موضوع متفهّم، فالشعور من جنسِ شعور يسبقه ..

دائما ما كنت أتخوف وأرتعب من إتيان يوم، أستيقظ فيه من نومي دون إيجاد سبب ينتزعني من برودة مرقدي، ويلقي بي في حضن العالم، فيبعثني، مع شمس كل صباح، إنساناً حياً ومُحْيِياً، يرى الحياة في كل مظهر من مظاهر هذا الوجود – على أقل المقاييس. وأنشر إكسير الحياة لمن يحيطون بي ومن يختلطون بأنفاسي … وقد تحقق خوفي من ذلك اليوم الكئيب، بل ولا يزال يتردّد يوما بعد آخر. 

يا صديقي، إن الصدر الذي لا يُسمع فيه سوى الصدى، مهجور مهجور مهجور ..

حدثني قلبي مرة فقال: ما زلت أخفق، ولم أفقد الأمل في استعادة أيامنا الأولى، ولحظاتنا البِكْر. كنا هانئين بطريقة عيشنا، كنا نخطو خطوات مرتّبة ومتزنة وخفيفة، ولكن عفوية. كنا نحب المشي أمام بحيرة الحب كل مساء، هكذا تستثير رغبتك في الكتابة، وتتفجر غدد الإحساس عندك. كنا لا نرى الظلام حتى في أشدّ الليالي عتمة. كنا نجول الأرض وحدنا، ولا نخشى افتراس الغربة. وكنا نجيد التغريد بطلاقة، لا أذكر أننا نشزنا عن لحن الكون، ولو لمرة. كنا .. “كنا طيبين وسُذَّجا”. لقد تغيرْتَ كثيراً، حتى أنني لم أعد أعرفك … إنه ليؤلمني كم كان محقا فرناندو بيسوا عندما قال في كتابه المستحيل [لست ذا شأن]: “كم هو قاسٍ أن لا نكون أنفسنا وأن لا نرى إلا ما يُرى”!

كان هذا آخر حوار دار بيننا، قبيل شهر. فقد هجرني قلبي هجراً جميلاً، وقطع عني أحاديث النفس. كان يمكنه أن يتوقف، كان بمقدوره أن يعترض بطريقة أكثر جرأة وأنانيّة، كان يمكنه أن يقفز للمشهد الأخير من المسرحية، ويرتاح. 
ومنذ ذلك الحين، وأنا أتوق سماع لأحاديث قلبي التي كان يزاورني بها وأنا في غياهب جُبّ الحزن.

لقد هجرني الربيع، ولم يسكنني مذّاك إلا الشتاء …

يحتاج الإنسان إلى من يستأنس بوجوده معه. يريد من يسمع حكاياته السخيفة ويستمع إلى أحزانه وخلجاته. يحتاج جليسا يضحك لطرائفه وسخائف مجريات الحياة اليومية. ولا يستغني عمن يتفقّده ويفتّش عنه حين يغيب، أو حين يغيب متعمّداً، بحثا عن سؤال قريب وحنانة حبيب.

دعني أخبرك بأكثر موقف تراجيدي قد مرَّ عليّ طيلة حياتي الكئيبة كلها. كنت صاحب دور البطل والضحية في مسلسل حزني العامر، وكان مشهد الختام مهيباً. ميزان يحمل حزن العالم أجمع في كفّة، وحزني وحده في الأخرى، ورأيت الكفة التي حملت حزني تهوي إلى ما بعد الأرض السابعة .. يا لعذوبة هذا المشهد، لم أتمالك نفسي أمامه. لقد فشلت كل خيبات العالم في الصُّمود أمام خيبتي !

تحكي أحداث المسلسل أسلوب الحياة داخل مدينة الحزن. إنّ كل شيء فيها مُؤمَّنٌ لك، ولكن المعجزة أن تتمنّى! فلا أحد يجرؤ على التمنّي في حضرة الحزن! هذه أحد المفارقات العجيبة التي وجدتها على هذه الأرض. مكتوب على باب المدينة: لا ضحك هنا ولا فرح، واحذروا الابتسامة، ولو كانت صفراء. فإن حساسية كاوس، الإلهة الأولى، مفرطة تجاه الفرح. وفي حال أن حبلت كاوس ، سيولد حزن جديد .. حقاً، إنه موقف لا يُحسد عليه الأب!

في مدينة الحزن، كل شيء يكسوه جلال اللون الرمادي. إن للرمادي سحر لا يضاهى!

فور دخولي المدينة، أتى باص ليقلّني وباقي السُّوّاح إلى الفندق. استقبلنا مدير الفندق، واحتفى بنا على طريقتهم وطبق عاداتهم. لم أعرف أكان شابا يرتدي وجه كهلٍ، أم كهلاً أضاع الموتُ طريقه عنه.
في هذا الفندق، لا توجد نشاطات جماعية أبداً. وكأنهم يقصدون إبقاء كل واحد منا مواجها ذاته …”وليكنْ”، قلتُ في نفسي.
دخلت إلى غربتي، أقصد غرفتي، فإذ بي أجدها ملء الطابق الحادي والعشرين بأكمله. وجدت عدة مفاجآت بائسة بانتظاري. سأذكر لك منها اثنتين، كانتا الأقرب إليّ. حوض جاكوزي العذابات، ومسبح كبير معبأ بالذكريات، واختاروا لي خصيصاً أسوأ الذكريات.
هنا، في مدينة الحزن، أشعر بأني سجين بلا سجن ولا سجّان. لم أعد أحتمل مكوثي في هذا الفندق الزنزانة لدقيقة أخرى. لقد اهتمّ مصممو الفندق بإحباط كل وسائل هرب نزلاء الفندق. فكان تخطيط أدوار النزلاء يبدأ من الدور الثالث عشر. بمعنى آخر أكثر وضوحا، إن من سيغادر هذا المكان، لن يكون بمقدوره أن يعيش سوى في الذكريات.
يا صديقي، إن الإنسان كائن مثير للتعاسة وجالب للمحزنة، ليس لذاكرته نصيب من استرجاع الذكرى الأصدق والأعذب، اللحظة البتول، الصرخة الأولى، ولا تكبيرة الصلاة الأولى. وليس ينفعه تذكر اللحظة الأخيرة، لحظة الرحيل. لذلك اطمئن، سوف أتخلّص من نفسي عما قريب، وسأغادر هذا العالم.

أتذكّر آخر كلمة قلتها لي قبل أربع سنوات، يوم التقينا في الرّيف: “اصرُخْ، يا صاحبي، لأعرف أنك حيّ”. حاولتُ يا صديقي، حاولت مراراً أن أصرخ بكلمة، بآية، بأغنية، بتعويذة، حاولت أن أصرخ بكل اللغات .. كنت أصرخ “ولا يخرج مني صراخي”.

لم أستطع الاستمرار في قراءة بقية الرسالة، فقد كانت موجعة أضعاف الوجع المنثور في الجزء المذكور. وإنْ تمكّنت من ذلك في وقت ما لاحق، فلا أظن بأن نشره سيكون فعلاً أخلاقياً.
بعدما أخذت قراري هذا، عدْتُ لقراءة كتاب شذرات لأديب كان يعيش على كوكب مجاور للأرض. ويا لَلْموافقات السعيدة، وجدتني أمام سطور كأنها كُتبتْ لصديقي المكتئب، فأرسلتها له دونما تردُّد:
يا صديقي المكتئب “كن بسيطاً. ما لي أراك تتحدث كما لو أنك من المرسلين. اخلع عنك مهمازات الترفُّع، وانزل من علياء الألفيات الثلاث المقبلة، عِشْ ما دمت حياً، ولا تُقحم نفسك في حقبة أنت على كل حال لا تنتمي إليها، دَعْ النوايا تخلد إلى النوم، انْسَ الاسم، انس نفسك، وانس موتك!”.
ثم قلتُ له: سأهديك هذه النصيحة التي تعلّمتها من معلمي عندما زرْته في جزيرة سيشل، وهو شيخ طاعن في الحكمة، وأحد تلاميذ بوذا الحكيم. قال لي: لقد ضيّعت نصف حياتي مُحاولاً أن أعثر على الحياة. وفجأة؛ وجدتني. كان الأمر في غاية البساطة والغرابة في آن. كل ما كان عليّ فعله هو أن أُسقِط [محاولاً] من الجملة السابقة. كذلك عثرتُ على الحياة ..
اعلم يا صديقي الحزين أنك عندما تملك نظرة أكثر رويّة وحكمة، ستتفاجأ كم كان القدر سخيّا معك!!


فأرسلت الرسالة له، ولا أدري إن كان ما يزال في غرفته بالطابق الحادي والعشرين، أم أنه قفز في طريقه إلى …

مجتزأ من: رسالة إلى صديقي البعيد الوحيد

 

لكل صديقين مقربين طقسٌ خاص يجمعهما، يختلف تماماً عن الطقوس والعادات التي تجمع الواحد منهما مع صديق آخر. وعندما أتحدث عن طقسي أنا وصديقي البعيد الوحيد هذا، فأنا أقصد مراسلات الصباح. وقد مضى وقت طويل على آخر مرة اجتمعنا فيها، ولا أبالغ إن قلتُ أنني لا أتذكر آخر مرة تلك !

استيقظت ذات صباح وتناولت هاتفي وأرسلت له: 

عندما يصبح كل شيء مألوفاً ..

عندما تتساوى أخبار الفرح والترح ..

أعلم أني قد غرقت في بحر الوحدة !

كل شيء يغدو فاقداً معناه حين تغيب ..

كل مشهد حياة يستحيل عدماً حين تغيب .. 

لا شيء هنا سوى شوق مؤلم …

نعم، إن البعد شتاؤه قارس !

نعم، إن شتاء البعد قارس !


عند الحديث عن المراسلات، هنالك أمر واحد يزعجني، وهي لحظات الترقُّب والانتظار، فأصبح مثل محمود درويش حينما قال: “في الانتظار، يصيبني هَوَسٌ برصد الاحتمالات”. كلنا يجيدُ السباحة في الخيال أثناء الانتظار …


فأرسل لي صباح اليوم التالي، يقول:

منذ صبيحة يوم العيد يا صديقي، وأنا لم أبرح مكاني إلا قليلاً، بسبب المرض. مضى يومان دون أن أحتفل بالعيد، أو أبارك لأحد. لم أهنأ بوجبة فارهة تليق بهذه الأوقات من السنة، كل ما أستطيع تناوله هو نصف رغيف مع كوب دافئ من الشاي.

يمضي اليوم بتثاقل شديد، تمر الساعات ببطئ ممل. أتذكّر أنني لم أتحدث إلى أحد خلال يومين! فأتساءل: هل جُننت أم ليس بعد!؟ ثم أضحك من جرأتي على سؤال كهذا!! … عندما تكون وحيداً، لا سبيل سوى أن تكون حنوناً مع نفسك ..

وتراودني فكرة، تُرى هل هذه بوادر الإقبال على عامٍ جديد!؟


فبعثت له برسالة قلت فيها:

لقد مضى وقت طويل يا صديقي على عزلتك. وقد يكون سبب حالك هو إصرارك على أن تبقى بعيداً وحيداً ..

جرّبت الوحدة لأسبوع ثم كفرت بها، ففي الوحدة كل شيء يصبح بارداً. مشاعري باردة. نبرة صوتي، نظراتي، ردود أفعالي. الأمر لا يشبه سكون العزلة في شيء. ففي حضرة السكون تصبح الأفكار متّسقة وأكثر انتظاماً، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر. إن تردّد إحساسي بهذا البرود، صقل فيّ براعة التنبؤ بقدومه. أشعر بنبضات قلبي وهي تصارعه، ألم أقلّ لك سابقاً إن النّبض أُمِّيٌّ في تزوير المشاعر!؟ .. إن جمود المشاعر حربٌ يقيمها القلب علينا لكي نستيقظ، لكي نتحرّر من حالة الموات التي أحقمنا أنفسنا فيها.

أنا الآن في المقهى، للتو فرغت من كتابة مقالتي الأسبوعية. أنظر من حولي، فأرى مجموعات عديدة. هنالك ستة شبان يتحدثون عن مشروع يدرّ المال عليهم. وعن يميني، ثلاثة كهول، عبثت الحياة بملامحهم أيما عبث، فقرّروا عقد هدنة مع مسؤولياتهم، ويمضون وقتهم بلعب الورق … ما زال شعور البرد يحاصرني. صوت عن شمالي يوسوس لي: ذلك هو برود الوحدة يا عبدالرحمن! .. فأضحك هازئا منه، وأقول: أظن أنه كلما غرقت في الوحدة أصبحت أقل عنفا .. وأكثر صبراً.

ولكن يا صديقي، متعةٌ هُمُ الناس .. يعرف هذا جيداً من سُلبت منه الفرصة، رغماً عنه، لا باختياره. وأذكر الكاتب المصري مصطفى أمين أنه قد صدّر كتابه [مسائل شخصية] بمقدمة رائعة تناول فيها مختلف المعاني التي وجدها من الناس الذين خالطهم طيل حياته، فهنالك من هم كقطع الشطرنج يُحرّكون ولا يتحرّكون، وهنالك من تمر الرياح وألوان قوس قزح من خلالهم من شدة شفافيتهم .. أقتبس منه: “أجمل ما في الدنيا هم الناس، متعتي الكبرى في هذه الحياة أن أعرف الناس، أن أعرفهم من الخارج والداخل، أن أدرسهم وأحبهم، أحببت الكثيرين ولم أكره أحداً، كنت أعامل الذين يكرهونني كأنهم مرضى، وأدعو لهم بالشفاء، وكنت أعطي عذراً للطبيعة البشرية، وأعذر الفاشل الذي يحقد على الناجح، وأعذر الضعيف الذي يكره القوي، وأجد مبرراً للفئران عندما تمقت السباع! 

عرفت أقزاماً كالعمالقة، وعمالقة كالأقزام. عرفت أقواماً طوالاً عراضا من خارجهم، وصغاراً متضائلين من داخلهم، عاشرت الملوك والصعاليك، وعرفت صعاليك لهم طباع الملوك، وملوكاً لهم أخلاق الصعاليك، عشت مع النجوم في سمائها، ورأيت حولها الشياطين أكثر من الملائكة، وعاشرت الفاشلين… ورأيت مواكب النصر تحف بها الطبول والزمور والهتافات والزغاريد، وشهدت مآثم الهزيمة تنهمر منها الدموع وأصوات البكاء والعويل”.


فتركني صديقي قرابة أسبوع دون أن ينطق بحرف واحد. ثم عاد وبعث لي برسالة في آخر الليل، على غير عادتنا، قال فيها: 


أبحث عن حروف .. أبحث عن كلمات أنثرها على صفحة رسالتي البيضاء، ولكن الفوضى تعبث برأسي. لا شيء سوى الفراغ. الأمر يكاد يزج بي في سجن الجنون.

قلبي يرفرف لا أعلم ما شأنه. عقلي فارغ يلهث من شدة الجوع. يداي الهزيلتان تحاول التقاط الأفكار من الهواء بلا فائدة.

في الليل لا أجيد سوى النواح، وأحاديث النفس. أفكر فيما سأفعله في الغد؛ لا شيء جادّ بانتظاري. أنظر مليّا داخلي .. فأتيقّن مجدداً أن انشغالي قد استنزف مني الكثير. كنتَ محقا يا صديقي، لقد أتلفتُ عديداً من اللحظات الفاخرة بسبب إفراطي في التفكير والوحدة.


ولكن حقٌّ هو ما أنشده محمود درويش حين قال: “يكفي أن تكون وحدك لتصبح قبيلة”، فالجنة حينما تكون بقربك وبصحبتك فرحا، لا شيء يعكر صفو مزاجك، على الرغم من كل ما يحدث في محيطك وفي أرجاء البسيطة.

يا صديقي .. “في داخلي شُرْفَةٌ لا يَمُرُّ بها أَحَدٌ للتَّحيَّة” ..

وقد قررت أن أحيا في تلك الشُّرفة، دون أن أتزحزح عنها شبرا ..

فالوحدة دواء المكتظ بالعبث .. ونداؤها؛ إذعان لترتيب داخلي !

وفي الوحدة كل شيء يبدو جميلا .. عدا الوحدة ذاتها ..

لقد حملتُ نفسي على الوحدة بعدما أيقنت بأن لدي لسان لاذع! .. لقد غرسَت الحياة في لساني الشوك.


ولا تثقل عليّ يا صديقي بالمواعظ، فأنا أوبّخ قلبي كل ليلة على هذه القسوة التي حملني عليها. وسألت نفسي: ما أعظم ما أخشاه!؟ فأجبت دونما أي تردد: الوحدة .. أقصد بها؛ أن يأتي يوم أحتاج فيه إلى صديق أصيل، يحتاج فيه قلبي إلى جاره القديم. تلك لحظة الوحدة الحقيقة!


من اكتفى برفقة الوحدة .. لن يجد مستقبلا سوى الشيطان !