– لأن الكتابة فعل نقصده حينما نحتاج للتعبير، وحينما نريد معالجة أمر يستعصي على المرء حله، وحينما نود مشاركة الآخرين بفكرة ما، وحينما يجد المرء منا نفسه على مسافة منه – ولأسباب أكثر مما سبق بكثير .. لم أستطع الكتابة في الأسبوعين الماضيين. إن الحاجة للكتابة هي مصدر الشرر الذي تنطلق به، ولا غيره، نيران حروفي على الورق. هكذا أتمكن من التهام مرارة الأمس دون أدنى ضرر ..
– هذه السلسلة من المقالات الأسبوعية المتواضعة -تقريبا- تحوي أفكارا مهمتها إرباك الحراسة المشددة حول أصنامنا العنقاء. بل أظنها كما وصفت كارينا بليكسن كتابات كارلوس ليسكانو “شكل راديكالي من [اللاقبول]، الذي يقود إلى بناء نفسه من جديد، مرة بعد مرة، وإلى أن يتضاعف. ومثل أب مزعج، يسأل نفسه طوال الوقت إن كان ما يفعله يستحق العناء، وإن كان على قدر المعاناة، ولم يقوم به”. شخصيا، لقد سئمت من الكتاب الذين لا ينفكون من تقديم الحلول الرخوة والهشة، والكتاب الذين لا ينفكون من التقليد، أولئك من قصدهم فرانتس كافكا حين قال في يومياته: “الكتاب يتفوهون بأشياء كريهة الرائحة”. نريد مزيدا ممن يحررون الأصوات المحبوسة ويشقون الدروب لها.
– لا يساعدك على فهم نفسك، وتموج مزاجيتك، وأحوال شخصيتك مثل الكتابة، وأخص منها كتابة اليوميات. هناك تأثير سحري لكتابة اليوميات. هذا الممارسة تشعرني بشيء من الامتلاء الشعوري، الذي يصعب علي الآن وصفه بأكثر من أنه ترياق معنوي بامتياز. وأنقل مما كتبه كارلوس ليسكانو عن حاله مع اليأس في السجن في كتابه [الكاتب والآخر] ص45: “أعتقد أن ما حال بيني وبين الغرق في اليأس هو أنني أدركت حالتي وأدركت حقيقة أني أملك شخصية علي أن أغذيها: الكاتب الذي ابتكرته في السجن. كرست نفسي من أجله، لقد كان في ذلك خلاصي حتى إن بدا مفرطا وسخيفا قول ذلك، إلا أن ابتكاري هذا الصوت، ابتكاري M، قد أنقذني. نعم، لقد أنقذني، أعتقد ذلك، وأقوله، وأكتبه. ولكن، مم أنقذني؟ من أنني لم أكن أنا، ومن أنني لم أترك لنفسي أن أكون ذلك الذي كان ينبغي أن أكونه بالضرورة؛ والذي ولدت من أجله؟ أي شيء كان يمكن أن أكون لو لم أبدأ الكتابة؟”.
– يقول كذلك في ص50 عن آخره (=كما يحب أن يسميه، ويقصد به كيان الكاتب الذي ابتكره): “كل كاتب ابتكار. ثمة فرد هو واحد، وذات يوم يبتكر كاتبا ويصبح خادما له (=آخره). ومنذ تلك اللحظة، يعيش كما لو كان اثنين”.
– لابد وأنك تساءلت في مرة من المرات: لماذا يكتب أحدهم إذا لم يكن يقصد نشر كتاباته؟ وما غرض الكتابة إذا؟ .. أجاب عن هذا التساؤل المترجم د. عادل مصطفى في مقدمته لكتاب الحكيم والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس [التأملات] ص16: “الكتابة ارتقاء من الخصوصية إلى العمومية، تحقيق لما هو كامن في العقل، وتحديد لما هو غائم، وتثبيت لما هو هائم. بل هي بحث عن المجهول من خبايا النفس، ومعرفة بما هو ضائع في تضاعيف الذات … لست أعرف بالضبط ما أنا أفكر فيه؛ ربما لذلك شعرت في كتابته … بذلك يتحول [الذاتي] إلى [موضوعي]، فتتملكه الذات بعد أن كان يتملكها! وربما تحوله، بالمران والتكرار، إلى كيانها وبنيتها، فيصير نسيجا من أنسجتها، وعضوا من أعضائها، عضوا جاهزا للاستعمال طوع إرادتها وتحت إمرتها ورهن إشارتها”.
– عند الحديث عن اليوميات، يجدر بنا الحديث عن تأملات أوريليوس (توفى 180م). فهي عبارة عن درر نثرت في دفاتر يومياته التي كتبها في خضم المعارك وفوق الجبال أو في أعماق الغابات، أو في قصره الشامخ. والتي اتفق وقد اخترت منها قوله:
*لا تنبت عن إخوانك في البشرية فتكون ورما على جسم العالم.
*ألا تصير مثل الذي أساء إليك .. ذلك هو خير انتقام.
*اللحظة الحاضرة هي ملكك النهائي، اقبض على اللحظة؛ أطياف الماضي وهواجس المستقبل تجتمع على التهام الحاضر الذي لا نملك سواه.
*لا تعلق سعادتك على آراء الآخرين فيك ولا تضع هناءك في أيديهم. ذلك [استرقاق] طوعي و[مصادرة] حياة و [نفي] خارج الذات. وما كنت لترضى أيا من ذلك لو كنت تعرف اسمه الحقيقي.
*لا تكن دمية تحركها خيوط الشهوة.
*أثقل الغرور؛ التواضع الزائف.
*ألا تدرك أن هناك حدا لعمرك، فإذا لم تستغله لتبديد غيومك فسوف يذهب العمر وسوف تذهب ولن تعود الفرصة مرة أخرى؟
– وكذلك يمكننا اعتبار كتاب الراحل الكبير علي عزت بيچوڤيتش [هروبي إلى الحرية] كان في أصله تأملات يومية، جمعها وحولها إلى لوحة ثقافية وحضارية فائقة الروعة. لم أستطع الكف عن الاندهاش طوال رحلتي مع الكتاب. كتب في مستهل كتابه: “لم أستطع الكلام، ولكني استطعت التفكير، وقررت أن أستثمر هذه الإمكانية حتى النهاية”.
– أختم بما وصف به ليسكانو آخره الكاتب [الكاتب والآخر] ص8: “إن الآخر المبتكر؛ الكاتب-الشخصية، يسير في العموم عكس اتجاه الحياة؛ فهو يغذي متطلبات خاصة به، ويختار أساتذة ويصوغ أهدافا. إنه يريد البقاء، وقد يكتفي ذلك الذي يحيا بكونه موجودا، محاولا ألا يخلق لنفسه كثيرا كن المشاكل وأن يعيش راضيا، ولا يروقه أن يكون خادما للكاتب. إن ذلك الذي يحيا [يلد] الآخر. إنه يصنع من حياته الخاصة آخر طفيليا: باحثا أرقا، غير مكتف أبدا ..”.