– “لكي تُهيء شخصا ما للتضحية بالنفس فلا بد من سلخه عن هويته الذاتية وعن تميّزه. يجب أن يكف عن كونه جورج أو هانس أو إيفان، أي يجب أن يكف عن الشعور أن خلية بشرية مستقلة لها وجود يحده المولد والوفاة. وأكثر الطرق فاعلية في الوصول إلى هذا الهدف هو صهر الفرد كلية في الجسم الجماعي. إن الفرد المنصهر في الجماعة لا يعدّ نفسه ولا الآخرين كائنات بشرية فعلية. عندما تسأله من هو؟ فإن جوابه التلقائي هو أنه ألماني أو روسي أو ياباني أو مسيحي أو مسلم، أو عضو في قبيلة معينة أو عائلة ما. ليس لهذا الفرد من معنى أو هدف أو مصير إلا من خلال الجسم الجماعي” إريك هوفر [المؤمن الصادق] ص115.
– ألهمني كتاب الباحث الدكتور هاني الجزار [أزمة الهوية والتعصب] الذي يهدف إلى اختبار العلاقة بين رُتب الهُوِيَّة والاتجاهات التعصبية، واقتبست منه عددا من المقولات.
– عندما نتحدّث عن المفارقات في ردات الفعل البشرية، ومدى تأثير التعصُّب على البشر: “إذا اعترفت أنني في الأسبوع الماضي قتلت شخصين من أجل مصلحتي الخاصة أو مصلحة أسرتي، فلن يختلف اثنان في أي من المجتمعات التي نعرفها على أنني مجرم. أما إذا اعترفت بأنني في الأسبوع الماضي قتلت أو تسببت في قتل ألفين من البشر لصالح جماعتي الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو العنصرية أو القَبَليَّة أو الوطنية، فأقل ما يمكن قوله أنه في إطار بعض المجتمعات سيكون هناك اختلاف على مدى أخلاقية سلوكي. أما في باقي المجتمعات فقد لا يكون اللوم على هذا السلوك مطروحا أصلاً” هنري تاجفيل (Henry Tajfel) بروفيسور علم النفس الاجتماعي.
– ويقول كارل بوبر: “إن التعصب إثم دائما، وإن من واجبنا أن نعارضه في شتى صوره، حتى عندما لا يكون ثمة اعتراض أخلاقي على أهدافه ذاتها بل وعلى وجه الخصوص عندما تتفق أهدافه مع أهدافنا الشخصية. إن أخطار التعصب وواجبنا نحو معارضته تحت كل الظروف، هما درسان من أهم الدروس التي يمكن أن نتعلمها من التاريخ”.
– التعصب في اللغة هو مصدر مشتق من عَصَبَ، ومعناه طواه ولواه وشدّه. وذكر الباحث زكي الميلاد في مقالة بعنوان [في نقد التعصب]: “التعصب هو نمط من السلوك يتّصف بالتحيز الظاهر، والميل الشديد الذي يتداخل فيه ويتمازج العامل النفسي مع العامل الذهني، ويتمحور حول شيء ما، إما تجاه فكرة أو مبدأ أو معتقد، وإما تجاه شخص أو عشيرة أو جماعة، وبشكل يكون ظاهراً ومنكشفاً عند الآخرين”. لذلك فذهنية التعصب لا تحتمل إلا التفاضل وعدم المساواة وصورة منقوصة عن الآخر، ولا تتقبل تناول صورة الآخر بنزاهة وموضوعية.
– جون دكت، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة كيپ تاون، صاغ في إطار موحّد ما وصلت إليه التصورات المختلفة عن أسباب نشأة وتطور الاتجاهات التعصبية: ١-ثمة عمليات سيكولوجية أساسية تشكل الاستعداد الإنساني الكامن للتعصب. ٢-المسؤول الأول عن نشاط تلك العلميات السيكولوجية هي عوامل معينة في البيئة الاجتماعية، يمكن تسميتها بـ [الديناميات الاجتماعية] للتعصب، فصراع المصالح وعلاقات القوة والمكانة كلها معايير اجتماعية محفزة للتعصب. ٣-تبنّي أفراد المجتمع -أيا كانوا- تلك المعايير التي اتخذها مجتمعهم، من خلال وسائط وآليات معيّنة. وهنا يبرز دور التنشئة الاجتماعية بميكانزماتها المختلفة ودور المجاراة كعمليتين قادرتين على تفسير كيف ينتقل التعصب إلى الأفراد. ٤-مع ذلك، فإن التعصب لا ينتقل آليا وبالتساوي الى كل أفراد المجتمع، فلا تزال العوامل الفردية هي المحدد الأول والأخير لمدى قابلية الفرد لتبنّي تلك المعايير وتمثّل تعصب الجماعة واكتسابه.
– يصف د. هاني الجزار التعصب قائلاً في ص١٦: “التعصب في مجمله إجراء دفاعي ضد الشعور بتشتُّت الهوية أو ارتباك الدور، بما يعني أن الاتجاهات التعصبية قد تمنح الشخص نوعا من الهوية، هذه الهوية، وإن كانت زائفة، فإنها تجنِّبه ألم الشعور باللاهوية أو على الأقل تمكّنه من التهرب من إلحاح الحاجة إلى هوية”. ولذا، تجد كثيراً من الناس يختبئون خلف عباءة أي شعار/جماعة/مؤسسة/وظيفة/دين/جنس يمكن أن يضمهم إلى حضنه، ويمكنك فقط فهم المقولة السابقة حين تهاجم ما يتعصبون له.
– والهوية ليست أزمة بقدر ما هي موقف .. نقطة تحول في مسار النمو يمكن أن تنفرج عن النضوج بوصفها تعكس كفاح الشباب نحو بلوغ الرشد .. نحو تحديد ماهيته ووجهته ومعنى حياته. وكذلك يصف الكاتب أهمية دور الهوية بأنها قضية ذات قيمة كبرى في كل مراحل نمو الإنسان، وتحديداً في مرحلة الشباب، لأنها مرحلة حرجة يمثّل فيها تحقيق الهوية تحدياً ومطلبا أساسيا للنمو، على اعتبار أن كل مرحلة من المراحل تتضمن مهام ومطالب رئيسة للنمو يؤدي النجاح في إجادتها إلى مزيد من النضوج النفسي والاجتماعي وتقدم النمو باتجاه السواء.
– إلا أن جزءاً من تلك الهوية لا يتحقق إلا إذا اعترف به الآخرون. فالإنسان [يرغب] ويتطلع إلى [رغبة الآخرين]، بمعنى أنه يرغب في نيل الاعتراف والتقدير من قِبَل الآخرين .. الاعتراف به [كائنا بشريا] له قدره وكرامته. وقد يصل بالواحد أن يخاطر بحياته ويضعها على المحك لمجرد الحصول على ذلك الاعتراف. وأقتبس من فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، هذا المقولة: “الفرد الذي لا يخاطر بحياته قد يُعْتَرف به فرداً، غير أنه لم ينل حقيقة هذا الاعتراف باعتباره وعيا مستقلا بالذات”.
– وفي كثير من الأحيان، عندما لا يتلقى الفرد ذلك القبول والاعتراف من مجتمعه، يتحول فجأة إلى فرد مُحبَط ومُحبِط، وينمو لديه وبشكل عفوي، رغبة في العمل الجماعي، وفي الوقت نفسه، رغبة في التضحية بالنفس. وهكذا فإنه من الممكن تفهّم هذه النزعات والأساليب التي تبع لغسل الأدمغة إذا راقبنا كيف تولد داخل العقل المحبط. ويقول إريك هوفر في كتابه [المؤمن الصادق] ص154: “عندما نشعر بالظلم نتيجة معرفتنا بقلة أهميتنا، لا نرى أنفسنا أحطّ من البعض وأرقى من البعض، بل نرى أنفسنا في الحضيض، وعندها نكره العالم كله ونصب جام غضبنا على الخليقة بأكملها”.
– ويعتبر المفكر إريك فروم الحاجة إلى الهوية على قائمة حاجات الوجود الإنساني، إضافة إلى: الحاجة إلى الانتماء، الحاجة إلى التجاوز أو التسامي، الحاجة إلى الارتباط، والحاجة إلى إطار توجيهي. ويقول بأن وظيفة الإنسان هي إعطاء الميلاد لنفسه، وأن يصبح ما هو عليه بالإمكانية. ولأن الإنسان قادر على الانفصال عن الطبيعة ولأنه يتمتع بالعقل والخيال فهو بحاجة إلى تكوين فكرة عن نفسه وبحاجة إلى أن يحس بذاتيته، وهذه الحاجة حيوية للإنسان لازمة له. ومشكلة الإحساس بالهوية ليست كما يزعم الباحثون في كثير من الأحايين مشكلة فلسفية فحسب، أو مشكلة لا تتعلق إلا بالفكر والعقل .. وإنما الحاجة إلى الإحساس بالذاتية تنبثق عن ظروف الوجود البشري، وهي مصدر أقوى وأعمق ما يبذله الإنسان من كفاح في حياته، بل إنها أحيانا أشد من الحاجة إلى البقاء المادي.
– وللفيلسوف الفرنسي لويس لاڤل (Louis Lavelle) مقولة يقول فيها: “إن حياتي لتنحصر بتمامها في عملية البحث التي أقوم بها من أجل العثور على ذاتي ! .. فأنا أبحث عن نفسي حتى أهتدي إلى نفسي، وحياتي -في صميمها- هي عملية تكويني لهويتي”.
– ويأتي الآن ذكر إريك إريكسون (Erik Erikson) عالم النفس الذي طور علم نفس الأنا، وصاحب نظرية نمو الأنا. عمل هذا الرجل كبروفيسور في أعرق جامعات العالم (Harvard, Yale and Berkeley) دون أن يملك شهادة ! … ويعتبر إريكسون أزمة الهوية (Identity Crisis) أخطر أزمات النمو التي تواجه الأنا على الإطلاق، إذ يراها صراعا قد يفضي إلى ميلاد جديد. فعنده أن نمو هوية حقيقية يكون عميقا لدرجة أن الأفراد يعتبرون أنفسهم قد “وُلِدوا من جديد” على خلاف من آثر المواءمة مع المجتمع بتوحداته الطفلية.
– يقول د. هاني الجزار: “تَبِع دراسات إريكسون وطورها عالم نفس آخر وهو جيمس مارشيا (James Marcia). ووفقا لنظريته، فهو يرى بأن إنجاز الهوية يستند إلى متغيرين أساسيين، هما الأزمة والالتزام. وتشير الأزمة إلى الفترة التي يبدو فيها الشخص منشغلا باستكشاف وتقييم البدائل في مجالات المهنة، والمعتقدات الدينية، والسياسية، والاتجاهات نحو الدور الجنسي. في حين يشير الالتزام إلى درجة التمسك بالقرارات التي تم اتخاذها بخصوص البدائل المختلفة … وبتطبيق معايير [مارشيا] الخاصة بوجود أو غياب الأزمة والالتزام، يمكننا التمييز بين أربع رتب للهوية تمثل حلولا مختلفة لأزمة الهوية. وهي: ١-تحقيق الهوية ٢-تعليق الهوية ٣-انغلاق الهوية ٤-تشتُّت الهوية”. ولكل منها تعريف وتوصيف مطول، للاستزادة يمكنك العودة إلى ص٤٣-٤٨ من كتاب [أزمة الهوية والتعصب].
– هكذا أفهم حديث رسولنا الحكيم صلوات الله وسلامه عليه (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ). ولنا في ذلك عبرة لمن اعتبر. وكتبت ما كتبت لأن -والحال الآن يشهد على ما أقول- ما نظن أننا نخبره ونعرفه حق المعرفة، هو في الحقيقة غائب منسيّ ! … فليس من المهم أن نصول ونجول كلما نعق جاهل. وليس المهم أن تكون ردود أفعالنا مسموعة، بل قبلاً يجب أن نحدد متى وكيف ولماذا !
– أختم بمقولة ذهبية لسيچموند فرويد: “حيث يوجد الانفعال اللاواعي، توجد [الأنا]”.